إنقاذ الأمم المتحدة من المخالب الإسرائيلية

إنقاذ الأمم المتحدة من المخالب الإسرائيلية
لولا عصبة الأمم، التي شرعنت الانتداب البريطاني على فلسطين عقب الحرب العالمية الأولى وأدرجت في صك هذا الانتداب بنداً يجيز للدولة المنتدبة اتخاذ ما تراه من إجراءات لإقامة «وطن قومي» لليهود في فلسطين، لظلّ «تصريح بلفور» مجرد «وعد قدمه من لا يملك لمن لا يستحق»، ولما وجد الحلم الصهيوني بيئة دولية حاضنة وقابلة لتحويله أمراً واقعاً. ولولا «الأمم المتحدة»، التي أصدرت جمعيتها العامة قراراً بتقسيم فلسطين إلى دولتين إحداهما يهودية والأخرى عربية، لما جرؤ بن غوريون على إعلان قيام الدولة الإسرائيلية عام 1948 ولما تمكنت هذه الدولة الوليدة من الانخراط رسمياً في مجتمع الدول عقب قبولها عضواً في الأمم المتحدة عام 1949. ومع ذلك، فقد توحشت هذه الدولة الآن وأصبحت، بإصرارها على ابتلاع فلسطين التاريخية كلها والتنكر لمشروع تقسيمها وعلى استبعاد أي دور للأمم المتحدة في تسوية القضية الفلسطينية، أكثر دول العالم المعاصر كراهية للأمم المتحدة ورغبة في تقويض دعائمها. وهنا تكمن المفارقة الكبرى التي يصعب استيعاب كامل أبعادها من خلال فهم دقيق لنمط العلاقة التي تربط بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، وهو نمط يقر الخبراء بأنه لا نظير له في تاريخ العلاقات الدولية. في محاولتها فهم طبيعة وآليات هذا النمط من العلاقة بين دولتين مستقلتين، انقسمت النخب السياسية والفكرية في العالم العربي إلى مدرستين مختلفتين إلى حد التناقض:

المدرسة الأولى: ترى أن إسرائيل «دولة وظيفية» خلقتها مصالح استعمارية وإمبريالية كبرى بهدف استخدامها أداةً لتفتيت العالمين العربي والإسلامي وللحيلولة دون نهوضهما من جديد، سواء تحت شعار القومية العربية أو الخلافة الإسلامية، وهو أمر يبدو من وجهة نظرها ضرورياً لتمكينها من الهيمنة الدائمة على منطقة الشرق الأوسط ومن خلالها على العالم بأسره. ولأن بريطانيا كانت القوة الاستعمارية الأكثر نفوذاً في مرحلة ما بين الحربين، فقد كان من الطبيعي أن تتولى الدور الرئيس في التمكين للمشروع الصهيوني إبان مرحلة انطلاقته الأولى، لكنها اضطرت بعد الحرب العالمية الثانية إلى أن تترك عملية استكماله للولايات المتحدة التي آلت إليها منذ ذلك الوقت قيادة المصالح الغربية ككل. ووفقاً لهذه النظرية، تصبح إسرائيل ومن ورائها حركة الصهيونية العالمية ككل مجرد قوة ثانوية أو تابعة تقوم بوظيفة محددة تلعبها لحساب القوى الاستعمارية والإمبريالية التي أوجدتها.

المدرسة الثانية: ترى أن الحركة الصهيونية العالمية هي التي استطاعت، من خلال قدرتها حشد وتعبئة قدراتها ومواردها المالية والإعلامية الضخمة، اختراق أهم مراكز صنع القرار العالمي ووظّفتها لخدمة مشروعها الطامح إلى بناء دولة يهودية قوية على كامل أرض فلسطين التاريخية «الموعودة»، في الحدود التي تتناسب مع احتياجات هذا المشروع في مراحل تطوره المختلفة. ووفقاً لهذه النظرية، تصبح إسرائيل، ومن ورائها الحركة الصهيونية العالمية ككل، هي القوة المحركة والقادرة على توظيف المصالح الاستعمارية وتوجيهها بما يتناسب مع طموحات مشروعها في كل مرحلة من مراحل تطوره.

ويشير المسار الذي سلكه تطور المشروع الصهيوني على أرض الواقع إلى أن نمط العلاقة القائم حالياً بين الولايات المتحدة، بصفتها القوة المهيمنة والممثلة لمصالح الإمبريالية الغربية، ودولة إسرائيل الحالية، بصفتها الثمرة لمشروع صهيوني لم يكتمل بعد، هو أكثر تركيباً وتعقيداً مما يبدو عليه للوهلة الأولى. ويكفي أن نسترجع ما حصل في سياق هذه العلاقة خلال العامين الأخيرين، أي منذ بداية العام الأخير في إدارة أوباما وحتى نهاية العام الأول من إدارة ترامب، لنصل إلى هذا الاستنتاج.

فخلال العام الأخير من إدارة أوباما وقع مشهدان لهما دلالة عميقة في هذا السياق: مشهد أول: جسّدته دعوة وجهها أحد أعضاء الكونغرس الأميركي نتانياهو لإلقاء خطاب يشرح فيه موقفه من الاتفاق المبرم حول برنامج إيران النووي، من دون تشاور أو تنسيق مع رئيس الدولة الأميركية. ولم يتورع نتانياهو عن إلقاء خطاب هاجم فيه الاتفاق وأوباما معاً، من فوق منبر أعلى سلطة تشريعية في الولايات المتحدة وفي اجتماع مشترك لمجلسي الشيوخ والنواب وعلى مسمع من الرئيس الأميركي نفسه. مشهد ثان: جسّده اجتماع مجلس الأمن الدولي في كانون الأول (ديسمبر) 2016، أي عقب فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية، للنظر في مشروع قرار قدمته مصر باسم المجموعة العربية يجدد مطالبة إسرائيل بوقف بناء المستوطنات التي يعتبرها غير شرعية وعقبة في طريق السلام. وبينما نجح ترامب، الرئيس المنتخب، في الضغط على مصر لسحب مشروع القرار، تصرف أوباما بطريقة تعكس رغبته في الانتقام من نتانياهو ولم يتردد في إعطاء أوامره بالامتناع عن التصويت على مشروع مشابه سارعت دولتان أخريان بتقديمه باسم مجموعة عدم الانحياز بعد سحب مصر مشروعها، الأمر الذي ساعد على صدور قرار ملزم من مجلس الأمن يندد بالاستيطان الإسرائيلي ويطالب بوقفه. وإذا كان المشهد الأول أكد عمق التغلغل الصهيوني داخل مؤسسات صنع القرار الأميركي، فقد أكد المشهد الثاني في الوقت نفسه أن المصالح الأميركية لا تتطابق دائماً وبالضرورة وفي الأوقات كافة مع المصالح الإسرائيلية، ومن ثم فقد تحدث بينهما في أوقات معينة فجوة قابلة الاستغلالَ في حال توافر شروط محددة. أما في نهاية العام 2017، فقد أقدم ترامب على خطوة لم يجرؤ عليها أي ممن سبقوه، أفضت إلى اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل وصدور أمر بالبدء في اتخاذ إجراءات نقل السفارة الأميركية إليها، ليعيد تذكيرنا بحقيقة مرة، يحرص بعضهم على تعمد نسيانها، تؤكد أن الولايات المتحدة كانت ولا تزال هي السند الرئيس والحاسم للمشروع الصهيوني في مراحل تحولاته الكبرى كافة. فهي التي أجبرت بريطانيا على التراجع عن خططها الخاصة بتقييد الهجرة اليهودية إلى فلسطين في بداية ثلاثينات القرن الماضي، وهي التي ضغطت على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لتوفير غالبية الثلثين اللازمة لتبني مشروع تقسيم فلسطين عام 1947، وهي التي منحت إسرائيل عام 1967 ضوءاً أخضر لشن الحرب وتوجيه ضربة قاصمة نجحت في إجهاض مشروع التحرر العربي بقيادة مصر الناصرية، وهي التي قادت «عملية سياسية» أجهضت ثمار حرب 1973 وقادت إلى تسوية منفردة مع مصر ثم إلى اتفاق أوسلو الذي شكل حجر الأساس في المحاولات الرامية لتصفية القضية الفلسطينية. لذا، يمكن القول أن قرار ترامب الأخير يبدو أكثر اتساقاً مع روح العلاقة الأميركية- الإسرائيلية وأكثر صدقية في التعبير عن طبيعتها الحقيقية. في سياق ما تقدم، يمكن تشبيه الولايات المتحدة بأسد مدرب على الأداء في سيرك يقوده لاعب إسرائيلي.

فإسرائيل المعزولة عن الولايات المتحدة تبدو دولة صغيرة لا قيمة ولا قدرة لها على التأثير، أما إسرائيل المرتبطة عضوياً بالعمق الأميركي فتتحول فوراً قوةً عظمى تملك حق الفيتو وقادرة على تحدي الأمم المتحدة بل وعلى إلحاق الأذى بها. وقد تمكنت إسرائيل في مرات كثيرة سابقة من استخدام الولايات المتحدة أداةً؛ ليس فقط للضغط على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لحملها على تبني قرارات تريدها، مثلما حدث حين أجبرت الجمعية العامة على إلغاء قرار يساوي بين الصهيونية والعنصرية، ولكن لمعاقبة الأمم المتحدة نفسها حين تتخذ قرارات تراها معادية لإسرائيل. ولأن المرحلة المقبلة ستكون بالغة الخطورة والحساسية، يبدو لي أن التعويل على ساحة الأمم المتحدة لإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية يشكل رهاناً صعب المنال ما لم تتوافر إرادة عربية قادرة على حشد قدرات وإمكانات الأمة وراء أكثر قضايا العالم عدالة في المرحلة الراهنة؛ وهي القضية الفلسطينية. أليس من المثير للتأمل والتعجب في الوقت نفسه أن إسرائيل، وهي الدولة الأكثر انتهاكاً للقانون الدولي والأكثر خرقاً للسلم والأمن الدوليين، أصبحت ترى في نفسها الآن دولة مؤهلة لشغل مقعد غير دائم في مجلس الأمن، وتصر على الحصول على هذا المقعد في القريب العاجل، وربما تحصل عليه بفضل الدعم الأميركي غير المحدود، الأمر الذي نعتقد أنه سيقوض كل ما تبقى من صدقية للأمم المتحدة بعامة ولمجلس الأمن بخاصة. فمن ينقذ الأمم المتحدة من مخالب إسرائيل الأميركية الصنع؟

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات