القدس.. ووعد مَن لا يملك

القدس.. ووعد مَن لا يملك
مهما كان قرار الرئيس دونالد ترامب في شأن نقل السفارة الأميركية إلى القدس أو إعلان المدينة «عاصمة لإسرائيل»، فإن التسريبات والأجواء السائدة فتحت هذا الملف على مصراعيه، ووضعته بين حديْن، باعتباره «مفتاح الحرب» أو «مفتاح السلام» (اسم كتاب للمؤرخ الفلسطيني البروفيسور وليد الخالدي). فالقدس ليست أي مدينة، بل ترميز وتجسيد للتاريخي والمقدس والسياسي والاجتماعي. تبدى هذا في الاصطفاف العربي والإسلامي والأوروبي ضد التوجه الأميركي، وفي تحذير جامعة الدول العربية من أن الاعتراف «اعتداء صريح على الأمة العربية».

القول إن ترامب ما زال يدرس خياراته يثير الغضب، فبأي حق يمنح إسرائيل وعداً بنقل السفارة إلى القدس، وكيف يتدرج الأمر سريعاً إلى احتمال الاعتراف بالمدينة عاصمة للدولة العبرية «تعويضاً» عن تأجيل نقل السفارة؟ وهل هناك فرق بين الأمريْن؟ كيف تتكرر مأساة «وعد مَن لا يملك لمن لا يستحق» في وقت يتم الإعداد لإطلاق عملية السلام؟ وما المصلحة الأميركية في ذلك؟

كيف لرئيس أميركي أن يتجاوز القانون الدولي بهذا الشكل الاستفزازي؟ ففي القلب من كل هذه التساؤلات معضلة قانونية تتعلق بملكية الأرض التي يفترض أن تقام عليها السفارة في منطقة البقعة في القدس الغربية. ماذا إن كان 70 في المئة على الأقل من هذه الأرض (أجّرتها إسرائيل للحكومة الأميركية عام 1989 بدولار واحد سنوياً على مدى 99 عاماً)، أرضاً مصادرة يملكها لاجئون، وثلثُها للأوقاف الإسلامية؟

المعضلة الأخرى هي ما نبه إليه الخالدي من أن قضية أرض السفارة تنتهك 4 ملفات أساسية في المفاوضات النهائية، هي القدس، والمستوطنات، واللاجئون، ومساحة الدولة الفلسطينية المرتقبة. هذا طبعاً إن بقي شيء اسمه عملية سلام، ليس لأن الفلسطينيين سينسحبون منها فحسب، بل لأن توجهاً أميركياً من هذا القبيل تجاه القدس هو مؤشرٌ إلى عدم وجود مبادرة سلام أساساً.

لا يُستبعد أن تكون التسريبات الأميركية بالون اختبار، يقيس ردود الفعل، ويطبّع الفكرة من خلال تداولها، ويأتي في إطار الضغط على السلطة لتقبل بالمعروض من أفكار سلام أميركية قيد الإنضاج يبدو أن الجانب الفلسطيني رفضها، وهو ما يُفهم من ابتزازات متتالية مارسها الكونغرس مع السلطة، خصوصاً عدم تجديد ترخيص مكتب منظمة التحرير في واشنطن، ثم تجميد المساعدات الأميركية بسبب رواتب أسر الشهداء والأسرى. لذلك، حتى لو أرجئ قرار نقل السفارة، سيبقى سيفاً مسلطاً على رقبة السلطة، على الأقل عند مراجعته كل ستة أشهر.

أحياناً، يكون مثل هذه التسريبات جزءاً من التوازنات الداخلية الأميركية- الإسرائيلية، أو حتى الأميركية البحتة، إن لم يكن بسبب مشكلات ترامب في إطار قضية التورط الروسي بالانتخابات الأميركية، وتساقط رجال الرئيس واحداً تلو الآخر في التحقيقات (آخرهم مايكل فلين)، ثم اقتراب القضية من ابنه دونالد ترامب جونيور، وصهره جاريد كوشنير، وربما منه شخصياً، فلأن هذه الظروف قد تجعل احتمال المقايضات في مسألة القدس في مقابل نفوذ اللوبي الصهيوني لإنقاذه، وارداً.

صحيح أن ترامب قد يطمح إلى تحقيق وعده لإسرائيل في شأن القدس، إلا أن الآمال شيء والواقع شيء آخر، فترامب مكبل بمنظومة قانونية في بلاده وبمصالحها مع العالمين العربي والإسلامي، كما بمعطيات السياسة العالمية والاتفاقات الدولية. إن أي قرار في هذا الشأن سيصطدم أولاً بالمسلمين والمسيحيين الذين لن يقبلوا إعطاء اليهود الحق في القدس، كما أن مخططات ترامب الخاصة بإيران ستكون في مهب الريح إن استفز الشعوب العربية والإسلامية.

بانتظار يوم الحسم، اليوم الذي يعلن فيه ترامب قراره، نتذكر ما كتبه الخالدي: «القدس تعلو على أي روزنامة سياسية لأي زعيم، إسرائيلياً كان أو أميركياً، مهما عظم قدره»، و «من الخير للسلطة الفلسطينية أن تدرك أن مصير القدس يعلو على نطاق قرار فلسطيني مستقل، ويتعدى ثنائية فلسطينية- إسرائيلية، وهو أكبر وأضخم وأخطر وأدهى من أن يعالجه طرف عربي لوحده، وأن عدم الوصول إلى حل في ظل هذا المناخ وهذه الموازين لهو خير من الوصول إلى حل».

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات