ليس هناك سبب يدفع واشنطن لتقويض حزب الله

ليس هناك سبب يدفع واشنطن لتقويض حزب الله
يقف العميل خافيير بنيا أمام السفير الأميركي في كولومبيا وكل علامات الاندهاش تظهر على وجهه. كان الاثنان يستمعان إلى شريط مسجل لزعيم "جماعة كالي" غلبرتو رودريغز يتحدث إلى رئيس الحملة الانتخابية للرئيس الكولومبي عن التبرع للحملة بملايين الدولارات.

في الحلقة قبل الأخيرة من الموسم الثالث لمسلسل "ناركوس" الشهير، كان خافيير بنيا، رئيس مكتب شرطة مكافحة المخدرات الأميركية "دي إي ايه" في كولومبيا، قد تمكن بالفعل من القبض على غلبرتو وشقيقه ميغل.

عملية اعتقال ميغل جعلته يكتشف أن المشكلة ليست في "جماعة كالي"، أكبر عصابة لتصنيع وتجارة وتهريب المخدرات في العالم في تسعينات القرن الماضي، ولكن في السياسيين والمسؤولين الذين يسهلون لها عملياتها. كان على السفير الأميركي وقتذاك أن يصدم بنيا بذلك التسجيل أولا، قبل أن يكشف له أن وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي ايه" تعلم منذ البداية كل هذه الاستنتاجات عن علاقة زعماء تجارة المخدرات في كولومبيا بالسياسيين. جوهر الصدمة كان في جملة لخصت الموقف المتشابك "واشنطن تعلم ذلك، لكنها تحتاج لبقاء هؤلاء في السلطة".

قبل أن يترك الغرفة، وجد بنيا نفسه يندفع بشكل تلقائي هادئ قائلا للسفير "الآن فهمت. لم تُترك لنا الفرصة منذ البداية!".

هذه هي قناعات الولايات المتحدة تاريخيا. ليس مهما مثلا بالنسبة للسياسيين في واشنطن أن تغرق المدن الأميركية بالمخدرات، إذا كان ذلك سيحقق مصلحة أكبر في مكان آخر. قد تبدو هذه السياسة ازدواجية بالنسبة لك، لكنك على أية حال مجبر على التعايش معها.

المسألة فلسفية في الأساس. مسألة قَدَر. الولايات المتحدة بلد قائم على فلسفة رأسمالية غير مستعدة للتسامح مع أي مفاهيم أخرى منافسة، حتى لو كانت هذه المفاهيم تخدم الإنسانية التي وضعت هذا الوجه المتوحش من الرأسمالية الثقيلة.

في الشرق الأوسط تبدو الأمور أكثر وضوحا. مسألة الصراع بين العرب وإسرائيل تاريخيا هي تجسيد لأحد أشكال الصراع الآني بين العرب وإيران.

مشكلة العرب أنهم لم يفهموا الغرب عموما، والولايات المتحدة بشكل خاص.

إدارة أزمة دول عربية عدة مع حزب الله تتم بالدفع الذاتي. ثمة قناعة عربية بأن سياسة حافة الهاوية ستجبر واشنطن على فعل شيء إزاء أذرع إيران في المنطقة. لم يفكر أحد في أن يسأل نفسه: لماذا؟ ما هي الدوافع الكافية التي قد تخلق مزاجا مغايرا في واشنطن، كافيا كي يدفعها إلى حسم مسألة إيران؟ ما هو جوهر الاستفادة الحقيقية التي ستعود على الأميركيين من وراء ذلك؟

العكس هو ما سيحدث. لو قامت الولايات المتحدة بقطع أذرع إيران في المنطقة سيكون العالم العربي قد ربح، وستكون هي أول الخاسرين.

تخيل مثلا أن حزب الله تم اجتثاثه نهائيا. ما هي القيمة الحقيقية التي ستظل باقية لنظرية الأمن الإسرائيلي، أحد أركان تشكل هوية الدول باعتبارها "أرض الميعاد"؟ كيف سيستمر "محور المقاومة" في خدمة خطاب الأحزاب اليمينية المتشددة؟ كيف سيتمكن مجمع التصنيع العسكري الأميركي من إقناع الكونغرس والطبقة السياسية بشكل عام من بيع الأسلحة لإسرائيل دون حساب؟ ما هي الاستفادة الإسرائيلية عند اختفاء حزب الله من الوجود، ورفع مظلة الحماية الأميركية، ولو جزئيا، عن تل أبيب؟ كيف ستكون إسرائيل هي إسرائيل التي نعرفها؟

لا تتعلق المسألة هنا بأمن لبنان واستقرار تركيبته الديموغرافية والعقائدية المعقدة. هذه مصالح أكبر من لبنان وحاضنته العربية بأكملها.

لننتقل إلى اليمن ونطبق على "حزب الله اليمني" نفس "الأمنيات" العربية البسيطة التي طبقناها على حزب الله اللبناني. نفوذ الحوثيين كان محدودا طوال الوقت وفق سقف أميركي من غير المسموح تخطيه. المفاجأة الحقيقية كانت في سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء، واقترابهم من ابتلاع اليمن كله. السلوك الأميركي في التعامل مع ملف اليمن وهيمنة الحوثيين عليه، كشف لنا لاحقا أن ذلك لم يكن في واشنطن سوى "مفاجأة سارة".

نعم، المملكة العربية السعودية هي أكبر حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وكل ما يجول بخاطرك الآن حول قوة علاقة الخليج بالغرب صحيح. لكن من قال إنه من غير المسموح الضغط أحيانا على الحلفاء لتحقيق بعض المصالح؟

ثمة مدرسة سياسية أميركية مازالت ترى الشرق الأوسط منبعا للنفط والثروات الطبيعية، ليس إلا. هذا الفهم يشبه في الإجماع عليه بين كثير من الجمهوريين والديمقراطيين، الإجماع الواصل بين المحافظين والإصلاحيين في إيران بجوهر حصار العالم العربي عبر تصدير الثورة الخمينية. لا فرق كبيرا هنا سوى العقيدة. مصلحة الطائفة في إيران وطائفة المصلحة في أميركا.

هذا المنطق الأميركي ظل ثابتا على مدار حكم إدارتين، رغم تناقضاتهما الحادة، إزاء المسألة السورية. لم تكن الولايات المتحدة معنية منذ البداية بإيجاد حل للصراع، الذي راح ضحيته قرابة نصف مليون شخص. ليس ذلك ما يهم العقلية الحاكمة هناك. كل ما يهم هو خروج واشنطن بأكبر قدر ممكن من المكاسب، لها ولإسرائيل بالطبع.

نفس المنطق هو ما يحكم المقاربة الأميركية للتسوية، التي باتت قاب قوسين أو أدنى. قبول الأميركيين ببقاء بشار الأسد في السلطة انتهازية في وجه السوريين، والمماطلة في دعم العملية السياسية انتهازية في وجه الروس.

إدارة الرئيس دونالد ترامب تعلم أن نظيره الروسي فلاديمير بوتين بحاجة إلى توافق مع الأميركيين على التسوية النهائية لضمان ألا يترك وحده بمواجهة حفظ الأمن ووحدة سوريا وعملية إعادة الإعمار المعقدة. الأميركيون يدركون دوافع بوتين، ويتفهمونها ويتفقون معها، لكنهم لا يريدون أن يعطوه ما يريد دون مقابل.

سؤال واشنطن الآن بشأن سوريا صار حول المقابل الذي ستحصل عليه، وليس مصلحة السوريين ولا وحدة بلادهم.

العراق هو الدولة الوحيدة التي تختلف فيها الإستراتيجية الأميركية، دون حياد عن ثوابت المصلحة. في النهاية تجربة العراق، بالنسبة للأميركيين، إرث تاريخي يشوبه شعور بالذنب وندم على "سنوات الفرص الضائعة". العراق هو فيتنام الشرق في العقل الأميركي، وضمان الحد الأدنى من الاستقرار هناك كاف لاعتباره مصلحة أميركية. إيـران مستمرة في القيام بهـذا الدور على أية حال، وطبعا دون النظر إلى حقوق العراقيين السنة أو الأكراد أو الأيزيديين أو ما تبقى من المسيحيين. ليس هذا مهما. قد يبدو كل ما سبق تبنيا لنظرية المؤامرة. لا بأس. هذا ليس خطي في الكتابة على أية حال. لكن كل المطلوب هو التمعن قليلا وقراءة ما بين السطور في مسار الأحداث الإقليمية. لو قمت بذلك فستكتشف أن دول المنطقة "لم تُترك لها الفرصة منذ البداية".

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات