معركة أو صفقة عرسال

معركة أو صفقة عرسال
ما جرى في جرود بلدة عرسال اللبنانية المتاخمة للحدود السورية خلال الأيام والأسابيع الماضية، وفي مخيمات النازحين السوريين المحيطة بها فيه من الصفاقة ما لا يخطر على بال. وهو إذ يؤكد سيطرة حزب الله على مفاصل الدولة اللبنانية وأجهزتها، يعكس طبيعة وشكل نظام ائتلاف المافيات الغاصبة للسلطة وللمؤسسات في لبنان. فالنظام بما هو مؤسسات سيادية بات بالكامل نظام حزب الله، في حين أن القوى الأخرى جميعها تُركَ لها أن تتمتع “بحق” الانتفاع من الغنائم الكامنة في المؤسسات الخدمية التي تحولت إلى ينابيع للصفقات وأوكار للزبائنية والفساد.

لقد تم التمهيد لـ“معركة” عرسال من قبل الجيش اللبناني نهاية يونيو الماضي بعملية مداهمة واسعة لمخيمات النازحين أسفرت عن مقتل العديد منهم واعتقال المئات الذين سقط منهم في المعتقل حوالي العشرة تحت التعذيب أو نتيجة ظروف الاعتقال. أي إنه في الحالتين تقع مسؤولية موتهم على عاتق المؤسسة التي اعتقلتهم. ولا ندري بالضبط في حال صدقت تهمة التعذيب، من هم الذين ارتكبوا هذه الجرائم، خصوصا أن كثيرا من التساؤلات كانت قد طرحت في الماضي إبان معركة عبرا شرقي صيدا بين الجيش اللبناني ومسلحي أحمد الأسير، حول مشاركة عناصر من حزب الله. فهل شارك عناصر من حزب الله في “التحقيق” مع المعتقلين السوريين وقاموا بتعذيب عدد منهم حتى الموت؟

ومن المعروف أن لحزب الله نفوذا، إن لم نقل سيطرة على جهاز مخابرات الجيش اللبناني الذي منع محامية ذوي الضحايا من استكمال عملها في تحليل عينات أخذت من الجثث لمعرفة أسباب الوفاة بناء على أمر قضائي وصادر منها العينات. هذه الخطوة التي لا يمكن وضعها إلا في خانة منع التحقيق وإخفاء المعلومات.

رافقت خطوة الجيش اللبناني وتبعتها حملة إعلامية واسعة ضد السوريين شاركت فيها وسائل الإعلام بكثافة تحت عنوان التضامن مع الجيش. ثم جاء خطاب حسن نصرالله ليعلن النفير العام وليطلق صفارة الهجوم الذي بدأه حزب الله على مواقع جبهة النصرة في الجرود. فكان التضامن مع الجيش وكان الهجوم لحزب الله. طبعا، الأهداف السياسية غير المعلنة رسميا، ولكن التي تتغنى وتتباهى بها أبواق حزب الله ليست أقل من تسويغ سيطرة هذا الحزب الكاملة على مؤسسات الدولة وتسخيرها في خدمة الهيمنة الكاملة لنظام ملالي طهران على البلاد، بعد أن قلصت التوافقات الكبرى بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية تواجد ميليشيات الحزب في سوريا.

استمر مسلسل الغرابة خلال المعارك التي دارت على مدى أكثر من أسبوع خسر فيها حزب الله من عناصره لا أقل مما خسرته جبهة النصرة، في الوقت الذي وقف فيه الجيش اللبناني متفرجا، لتتوقف المدافع فجأة ويعلن عن انتصارات وعن مفاوضات.

المفاوضات دارت بين الحزب والجبهة بوساطة مدير عام الأمن العام اللبناني المقرب من حزب الله، كل ذلك من دون أي موقف حكومي مما يجري، باستثناء بعض التصريحات المرتبكة لرئيس الحكومة خلال زيارته للولايات المتحدة وفي وساطة، على ما يبدو، لتليين مواقف الإدارة الأميركية في قضية العقوبات المالية التي تنوي فرضها على حزب الله. ولكن ما أثار دهشة الجميع هو ما تضمنته الصفقة النهائية بين الجبهة والحزب التي أفضت إلى إطلاق موقوفين متهمين بقتل عسكريين لبنانيين، في مقابل إطلاق جبهة النصرة لعناصر من حزب الله.

وبغض النظر عن المواقف الكثيرة التي سخرت من “النصر الإلهي” بين “تموزَيْن” ومن دموع حسن نصرالله خلال إعلانه للنصر، وبغض النظر عن مضمون الصفقة التي أدار مفاوضاتها موظف حكومي برتبة مدير عام الأمن العام، فقد بات جليا أن مؤسسات الدولة بدءا من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، ومرورا بوزير الخارجية الذي تفوق على الجميع بمواقفه العنصرية، إلى الموظفين الكبار والمؤسسات الأمنية وصولا إلى الجيش والقضاء والإعلام، جميعها باتت موضوعة في خدمة أجندة حزب الله السياسية. فكيف يُطلق سراح موقوفين اعترفوا بذبح عسكريين في الجيش اللبناني بعد اختطافهم من دون أن تكون هناك مفاوضات تكون الحكومة اللبنانية المسؤولة دستوريا أمام البرلمان (البرلمان اليوم مغتصب أيضا من منتحلي صفة مددوا ولايتهم للمرة الثالثة على التوالي دون الرجوع للهيئات الناخبة) أحد أطرافها، وتكون للقضاء اللبناني فيها كلمة الفصل الحرة؟

هذا مع العلم أن حزب الله نفسه ومؤيديه من سياسيين وإعلاميين رفضوا في الماضي التفاوض مع جبهة النصرة من أجل إطلاق العسكريين المختطفين قبل ذبح بعضهم، لقاء إطلاق موقوفين لم تكن قد تلوثت أيديهم بدماء العسكريين، بذريعة “أننا لا نفاوض إرهابيين”.

معركة أو صفقة عرسال أظهرت أيضا كيف أن جبهة النصرة وقادتها ليسوا أكثر من “موظفين” أو عمال مأجورين لدى المحور الذي يشكل حزب الله أحد أطرافه. فقد تمكن أبومالك التلي، قائد جبهة النصرة في جرود عرسال، من تحصيل تعويضاته الكاملة التي تجاوزت الثلاثين مليون دولار أميركي إلى جانب مواكبته وتأمين وصوله إلى مطار بيروت وتركه يتوجه إلى الجهة التي يريد مصطحبا معه ثروته، وتاركا بعض رجاله ليقوموا بتصفية أحد أبرز معاونيه.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات