سوريا وعدم الفصل بين معارك شمالها وجنوبها

سوريا وعدم الفصل بين معارك شمالها وجنوبها
كان واضحا منذ اليوم الأول لانطلاق اجتماع أستانا 5 يوم الثلاثاء 4 تموز / يوليو الجاري أن روسيا قادمة إلى المؤتمر وهي تعلم ان مؤتمر أستانا يلفظ انفاسه الأخيرة، أو أنه تم تحجيمه لخدمة الأهداف الأمريكية فقط، لأن قسمين من أربعة أقسام مناطق تخفيض التصعيد فيها أصبحت بيد الهيمنة الأمريكية، وهما أجزاء كبيرة من الشمال ومنطقة الجنوب، أما الأجزاء الشمالية التي تحت الهيمنة الأمريكية فهي المناطق التي يتم تحريرها من داعش ويتم تسليمها للميليشات الكردية الانفصالية، فأمريكا تنفذ مشروعها فيها بالتنسيق مع حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية، وقد تجسد ذلك باحتلال هذه المليشيات الكردية لعدة مدن سورية لا أغلبية للمواطنين لأكراد فيها، وتم طرد أهلها منها بهدف إقامة كيان انفصالي كردي في جزء أو أجزاء من شمال سوريا، وهو ما يرفضه المواطنون السوريون من غير الكراد من السنة والتركمان وغيرهم، وكذلك تعارضه الفصائل السورية المسلحة وفي مقدمتها الجيش السوري الحر ، ويقاومه عسكريا بدعم من الدولة التركية منذ سنوات، وبالأخص بعد افتعال فزاعة داعش.

إن ما ساعد أمريكا على تحقيق بعض أهدافها في شمال سوريا هو الموقف الروسي المساند لها، فالموقف الروسي غير حاسم في منطقة الشمال كان أقرب للموقف الأمريكي منه للموقف التركي في معظم مراحله، وبالأخص في المناطق التي تخطط أمريكا لجعلها من نصيب الإقليم الكردي الانفصالي، فروسيا لا تريد أن تقف حجر عثرة ضد إقامة هذا الكيان لأسباب سياسية تخدم رؤيتها نحو الحل السياسي في سوريا أولاً، وإبقائها على الود بينها وبين الأحزاب الكردية، حتى التي تخدم المشاريع الأمريكية في هذه المرحلة، فالموقف الروسي لم يتخذ قراره النهائي بهذا الشأن، بينما اتخذ قراره بالاتفاق مع أمريكا بشأن جنوب سوريا بوقف اطلاق النار ومنع التصعيد، على خلاف رؤيته السابقة بمحاولة فرض سيطرة عسكرية له فيها، ولكنه تراجع عنها في الاتفاق الأخير الذي أعلنه الرئيس الروسي بوتين مع نظيره المريكي ترامب في قمة العشرين بألمانيا بتاريخ 7 تموز / يوليو الجاري.

هذا الاعلان عن الاتفاق بين روسيا وامريكا على وقف معارك الجنوب سبقه إعلان المبعوث الروسي إلى سوريا الكسندر لافرنتييف، عن توافق الدول الضامنة في مؤتمر "أستانة 5" على "رسم حدود منطقتي خفض توتر، هما ريف حمص وسط سوريا، والغوطة الشرقية بريف دمشق فقط ولم يذكر الشمال ولا الجنوب، وقال:" إن المشاورات لا تزال جارية من أجل توقيع توافق لتحديد حالة القوات، التي ستنتشر في مناطق خفض التوتر، وتوقيع إنشاء مراكز تنسيق بين الدول الضامنة تركيا وروسيا وإيران"، وأشار المسؤول الروسي أن "هناك صعوبات لا تتعلق فقط بموضوع رسم حدود مناطق خفض التوتر، بل تتعلق أيضًا بالقوات، التي ستأخذ مكانها هناك"، وقد بين أن: "هناك كذلك مصاعب تتعلق بحالة هذه القوات، والصلاحيات التي ستُمنح، وكل ذلك في إعداد الوثائق المتعلقة بها".

فالاتفاق على مناطق الوسط بأستانا5 اخرج مناطق الشمال والجنوب من أستانا5 ، أي أخرج المناطق الأخرى المذكورة باتفاق استانا4 والتي تتعلّق بمنطقة إدلب (شمال)، والمناطق الجنوبية (درعا والقنيطرة)، فلم يذكرها المسؤول الروسي، وكان واضحا انها ستكون خارج اتفاق أستانا5 ، او ان الأطراف الضامنة لن تستطيع شملها بالاتفاق في استانا5، وبذلك جاء إعلان قمة العشرين بهامبورغ الألمانية عن اتفاق بين روسيا وامريكا والأردن على وقف اطلاق النار في جنوب سوريا نتيجة طبيعية وليست مفاجئة، لأن إخراجها من أستانا 5، وهذا يعني أن أمريكا هي من اخرجتها من أستانا 5، فأمريكا ولأهداف تخص مشاريعها في سوريا والمنطقة أولاً، وخدمة لأمن إسرائيل ثانياً، أخرجت الجنوب السوري من اتفاق أستانا، وانها تعمل إخراج شمال سوريا ومعاركها من أستانا أيضاً، وإن لم تعلن عن اتفاقياتها بهذا الشأن حتى الآن، والتي قد تكون بعد الانتهاء من تحرير او تدمير الرقة كما دمرت الموصل. 

إن إسرائيل جزء أساسي من اتفاق أمريكا وروسيا على مستقبل جنوب سوريا أكثر من الأردن، ولكن إدخالها فيه علنيا يربك الاتفاق أو يفضحه أكثر ، وإلا كان ينبغي أن يتم الاعلان عن هذا الاتفاق في إسرائيل نفسها، لأنها هي التي أدارت هذا الاتفاق بكامل تفاصيله، وروسيا شريكة لأمريكا بحماية امن إسرائيل، بل إن روسيا لم تدخل سوريا عسكريا إلا بعد تفاهم مع الدولة الإسرائيلية على التفاصيل والأهداف، وما يهم الاردن من مخاوف هو من تمدد للحرس الثوري على الحدود الشمالية للأردن، وهو ما ترفضه إسرائيل أيضاً، أي ان الاتفاق أخذ المخاوف الأردنية بعين الاعتبار، وما الضربات الأمريكية لقوات الأسد والمليشيات المحاربة معه في المنطقة الجنوبية الشرقية من سوريا قبل أسابيع إلا تعبير عن موقف امريكي حازم بمنع الميليشيات الإيرانية وميليشيات حزب الله اللبناني من الاقتراب من الحدود الأردنية او الإسرائيلية، وهذا يخدم الرؤية السعودية والخليجية أيضاً، لأن حماية أمن الأردن من المخاطر الايرانية هو حماية للسعودية وأمن الخليج من الناحية الشمالية أيضاً.

لكن الغريب أن يأتي تصريح الرئيس الروسي بوتين بعد يوم من إعلان الاتفاق مع ترامب أن التوصل لهذا الاتفاق الروسي الامريكي حول جنوب سوريا جاء بعد تغير مفاجىء في الموقف الأمريكي، بينما الموقف الأمريكي منذ مجيء ترامب واضح، بانه كان حازما بمنع وصول ميليشيات إيرانية أو تابعة لها إلى المدن الجنوبية من سوريا مثل درعا أو القنيطرة أو السويداء وأريافها، لأن هذه المناطق أصبح فيها قوات تابعة لمجلس العشائر السورية، وقامت أمريكا بتدريبها وتسليحها بالتعاون مع الأردن، إلى جانب الفصائل السورية الأخرى من الجيش السوري الحر وغيره، وهذا يعني أن أمريكا هي من أخرجت منطقة جنوب سوريا من اتفاق أستانا 4و5، ولم تتمكن الدول الضامنة في اجتماع أستانا من تقرير موضوع التصعيد في منطقة الجنوب، وهذا ما قد ينسحب على منطقة الشمال أيضاً، لولا وجود الموقف التركي الرافض لأي تقاسم للنفوذ شمال سوريا لا توافق عليه الحكومة التركية، وبالأخص ما يهدد الأمن القومي التركي للخطر، فتركيا أعلنت مراراً أنها سوف تقضي على أي كيان انفصالي شمال سوريا يعرض أمنها وشعبها للخطر. 

لقد انتهى مؤتمر أستانا 5 دون التوصل لحل حول المنطقتين المتفق عليهما بين الدول الضامنة بخفض التصعيد فيها، لأن الأمر كان يتطلب تفاصيل الحدود الفاصلة بينها ونوع القوات التي تنتشر فيها لحفظ منع التصعيد، وتم تشكيل مجموعة عمل، لمتابعة بحث قضية "مناطق خفض التوتر"، على أن تجتمع هذه المجموعة في العاصمة الإيرانية طهران مطلع أغسطس/أب المقبل، وهذا يعني أن الاتفاق سيكون مستحيلاً، مما يعني أن إيران تعمل لكسب سمعة إعلامية أمام شعبها بأنها تلعب دور الوسيط في سوريا وليس دور المحارب بالنيابة عن بشار الأسد وجيشه ونظامه، أي أن إيران أصبحت تدرك مثل روسيا أن أمريكا تغيرت في عهد ترامب، وانها اكثر عزما وحسما لأخذ ما تريده بالقوة العسكرية، فضرب قاعدة االشعيرات وضرب ميليشيات إيرانية أو تابعة لها على الحدود الجنوبية الشرقية من سوريا لمنع التسلسل الإيراني إليها كانت رسائل على جدية الموقف الأمريكي الجديد.

ما يمكن قوله عن الاتفاق الروسي الأمريكي على وقف التصعيد في جنوب سوريا هو أن أمريكا قد فرغت من جنوب سوريا بتوصل الأطراف الداعمة لبشار الأسد في سوريا وبالأخص روسيا وإيران باستحالة تحقيق موطىء قدم لهم في جنوب سوريا، فالمنطقة أمناً تحت الحماية والوصاية الإسرائيلية الأمريكية، ولا يسمح بوجود قوات مناوئة للكيان الاسرائيلي ولو كانت مقاومتها لإسرائيل إعلامية فقط، وبحكم وجود الأردن على حدود هذه المنطقة تم إشراك الأردن وقواته المسلحة بما يخص المناطق المحاذية للحدود الأردنية فقط، على ان تتولى إسرائيل بنفسها ما تبقى من هذه الحدود وبالأخص المناطق المحاذية لمنطقة الجولان المحتل، والضربات التي وجهتها اسرائيل لقوات الاسد وحلفائه في الايام الأخيرة كانت تحمل هذه الرسالة، كما موافقة رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو على اتفاق روسيا وامريكا على وقف معارك الجنوب دليل على ذلك.

وهذا يعني ان امريكا سوف تتفرغ اكثر لمشروعها في شمال سوريا، وبالأخص بعد تحرير الرقة من تنظيم الدولة "داعش"، وقد تعهدت الحكومة الأمريكية لتركيا بأنها بعد ذلك سوف تسحب الأسلحة الثقيلة من تنظيم قوات سوريا الديمقراطية أولاً، وانها لن تبقي دعمها لها كما في السابق، واخيراً بمنع هذه المليشيات من استخدام السلاح الأمريكي ضد الدولة التركية، فهذه تعهدات قدمها كبار القادة العسكريين الأمريكيين لنظرائهم الأتراك، وكانت في البداية تقدم سريا، ولكن تكرار المعارضة التركية العلنية على التعاون الأمريكي مع التنظيمات الارهابية التابعة لتنظيم "ب ي د/ بي كا كا" الإرهابي اضطر المسؤولين الأمريكيين لإعلانها أيضاً.

إن اهتمام أمريكا بالأمن الإسرائيلي في جنوب سوريا ينبغي أن يقابله اهتمام امريكي بامن تركيا في شمال سوريا، وكما أقرت روسيا التوافق مع أمريكا على الأمن الإسرائيلي في جنوب سوريا، فينبغي أن يقر التوافق الروسي مع أمريكا على الأمن التركي شمال سوريا، فاقتطاع جنوب سوريا وشمالها من اتفاق أستانا لخفض مناطق التصعيد ينبغي أن يكون متوازياً، بحكم كونهما حدودا دولية ينبغي ان تحفظ أمن تلك الدول المجاورة لسوريا بما فيها تركيا والأردن من الشمال والجنوب، وكذلك أمن العراق ولبنان من الشرق والغرب أيضاً، وامريكا لم تعارض التوافق الروسي الإيراني على حماية الحدود العراقية واللبنانية مع سوريا، وحتى وهي تحت سيطرة ميليشيات للحرس الثوري الإيراني وميليشيات لحزب الله اللبناني وغيرهما، فهذا التفهم الأمريكي والروسي لأمن حدود الدول المجاورة لسوريا يفرض حفظ أمن كل هذه الحدود، بما فيها الحدود مع تركيا،  وليس حفظ امن الجنوب وفتح أسباب معارك وحروب في شمالها.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات