الاستنزاف الأميركي المزدوج لروسيا وإيران

الاستنزاف الأميركي المزدوج لروسيا وإيران
أميركا أقوى عسكريا وسياسيا واقتصاديا من روسيا وإيران معا، لكنها غير مضطرة لاستخدام تلك الوصايا لأنها لا تعادي روسيا صراحة أو لا تستعجل مواجهتها .

لا شبه بين التهادن الأميركي الروسي في سوريا وبين التهادن بين واشنطن وموسكو الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة بينهما. فالتجاور بينهما الآن في بلد صغير المساحة مثل سوريا لم يحدث خلال حرب فيتنام، أو في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، أو في أزمة الصواريخ في كوبا، حيث دارت حرب بالوكالة بين البلدين في الحالتين الأوليين، بينما تولت الدبلوماسية إطفاء فتيل حرب عالمية ثالثة كادت تشتعل في الجزيرة الكاريبية.

وبدلا من سياسة “الاحتواء المزدوج” التي مارستها أميركا تجاه كل من العراق وإيران، خلال حرب الثماني سنوات (1980-1988)، تمارس أميركا ما يمكن تسميته “الاستنزاف المزدوج” تجاه كل من روسيا وإيران. على الأقل لأن واشنطن وموسكو لم تعلنا العداء الصريح بينهما. والواقع يرجح وجود تحالف ضمني بين الطرفين في حربهما مع النظام الأسدي ضد الثورة السورية وقواها المتعادية المعارضة لهذا النظام.

هذه القوى المعارضة لا حاجة لاستنزافها من أميركا، كونها تستنزف ذاتها، فرادى وجماعات، بدافع من رغبات “أصدقاء سوريا” المتقاطعة التي أفرغت معظم المحتوى السياسي والعسكري المعارض، فضلا عن تخلخل المحتوى الأخلاقي المعارض في حالات تكررت منذ انطلاق الثورة السلمية المدنية السورية قبل أكثر من ست سنوات.

في السياسة، السيادة للكذب والتكاذب. ومؤشر ذلك التكاذب هو حرب كل من أميركا وروسيا وإيران والنظام الأسدي ضد داعش. صحيح أن هذه الحرب قائمة، لكن عدم تكافل هذه الأطراف في تلك الحرب أطال في عمر داعش ووضع المدنيين السوريين في مرمى هذه القوى بالتناوب العشوائي الذي جعل وكالات الأنباء تتردد في إعلان عائدية “طائرة ما” قصفت مناطق مدنية في حالات تكررت المئات من المرات منذ أغسطس 2014، شهر إطلاق العمليات الجوية للتحالف ضد داعش.

والصحيح الثابت في مركزية الحرب على داعش من النظام الأسدي، وإيران وروسيا وأميركا وأعضاء التحالف، أن هذه الحرب منظورة من داعش، عندما تابعناه يقاتل بشراسة ويتمسك بالأرض حينا، أو يوجه ذئابه المنفردة وانغماسييه وراء صفوف العدو الأرضي، أو بالانسحاب التكتيكي على طريقة استلام وتسليم، أو معارك الكر والفر التي تطيل زمن المعارك دون أن تحسمها، في أحيان كثيرة.

تلك الحرب المنظورة من داعش قابلها عبث القوى المعادية للتنظيم، حتى بوجود تنسيق بين روسيا وأميركا في خصوص تنسيق الطلعات الجوية لطيران البلدين في مناطق نفوذهما. تستثنى من هذا التنسيق التجارب الصاروخية ضد التنظيم، التي يتم فيها إعلام الطرف المعني في اللحظات الأخيرة قبل الإطلاق!، ما حال دون حصول حوادث يُؤسف لها حتى الآن.

هذا العبث، على الرغم من تشتيته للجبهات الدفاعية لداعش واستنزافه أرواح مقاتلي التنظيم، ساهم في تشتيت القوة الضاربة لـ”الحلفاء” المعادين لـ”تنظيم الدولة”. الأمر الذي لا تفسير له سوى في حالتين؛ إما رعاية هذه الدول، مجتمعة وبالتواطؤ، لظاهرة داعش، والحرص على استمرار وظيفية التنظيم؛ وإما أن هذه الدول قادرة على القضاء على التنظيم لكنها غير راغبة فيه في الوقت الحالي، كون داعش ابن أثير لأحد أجهزة مخابرات إحدى تلك الدول، التي لم تصدر، بعدُ، الأمر للتنظيم كي يختفي.

وحتى باستبعاد هذين الاحتمالين، من الصعب تصور أن التنظيم كان ذاتي النشأة، وأنه استغل الفوضى في العراق وسوريا للنمو والتمدد وإعلان “دولة الخلافة”. هو أمر محتمل، خاصة أن القيادات العسكرية لداعش تتكون من بقايا مخابرات وجيش صدام حسين، ما يعني أن تجذر الدكتاتوريات في المنطقة العربية، وتمدد الفقر واستقراره، هو ما أنتج ظاهرة داعش السياسي الحركي، المسترشد بالتفسير السلفي لإسلام فقهاء عصر ما بعد النبوة.

ثم إن دكتاتوريات الداخل العربي كانت دائما متضامنة مع “دكتاتوريات العالم الحر”، بمعنى أن دكتاتور الداخل انتهت صلاحية دوره الوظيفي المحدود غالبا بجغرافيات سايكس بيكو، قبل إبداع الدور الوظيفي لداعش العابر للحدود، كضرورة لحرب مفتوحة تشترك فيها بقايا حلف وارسو من جهة والحلف الأطلسي من جهة أخرى، فضلا عن هوامش أشباه الجيوش في سوريا والعراق خاصة، متضامنة مع ميليشيات تظهر وتختفي موسميا بذريعة داعش وأخواته، منذ ظاهرة الصحوات العشائرية السنية في العراق في زمن أبومصعب الزرقاوي، وصولا إلى الحشد الشعبي بنسختيه الشيعية والسنية، فضلا عن المختلطة.

وفي كل مرحلة سادت علاقات تبادل مصالح بين التنظيم والأطراف المعادية له، كل يقوم بدوره، ما دامت كل الأطراف موجودة على الأرض، وحتى لو كان داعش هو الطرف الوحيد المرشح للزوال، بخلاف دول المنطقة، وروسيا وأميركا.

وأوضح ما كان من علاقات التنظيم بالدول أن داعش لا يزال يبيع للنظام الأسدي حاجاته من النفط والغاز من المناطق التي سيطر عليها في ديرالزور. وحتى وقت قريب، كان نفط داعش يصل إلى الحدود السورية التركية عبر وسطاء وتجار.

وفي ما يتعلق بمستقبل معارك الاستنزاف الثنائي، أو المزدوج، لا بد من داعش لفترة طويلة. والآن، في الموصل، انتقل داعش من الضفة اليمنى لدجلة إلى الضفة اليسرى منعتقا من الحصار في مربع الكيلومترين الأخيرين، ما يعني أن نهاية المعركة لا تتعلق بإنهاء وجود داعش في الموصل القديمة، حتى بالنسبة للحشد الشعبي المرتبط بإيران وظيفيا. ولنتذكر هنا أن مخطّط معركة الموصل ترك جهة غرب الموصل مفتوحة في اتجاه سوريا، كما ترك مخطط معركة الرقة جهة الجنوب مفتوحة لهروب قيادات داعش نحو بادية الحماد.

وعلى العموم، يلحظ السياسيون والعسكريون، في كل مكان وزمان: إذا كان عدوك أقوى منك وفُرضت عليك مواجهته، فما عليك إلا الاسترشاد بمبادئ لعبة الجودو، أو التموقع والصبر انتظارا لخطأ قاتل يرتكبه، أو الاستعانة بالإيمان والعقيدة لتعويض اختلال ميزان القوى.

روسيا لن تغامر بمواجهة أميركا، وبدرجة أقل ينطبق الأمر على أميركا. ونظريا، أميركا أقوى عسكريا وسياسيا واقتصاديا من روسيا وإيران معا، بل من معظم دول العالم مجتمعة، لكنها غير مضطرة لاستخدام تلك الوصايا الثلاث لأنها لا تعادي روسيا صراحة أو لا تستعجل مواجهتها، منتظرة أن يستنزف أعداؤها قواهم ذاتيا مع مرور الوقت، دون حاجة إلى تدخل مباشر منها.

أما صداقة أميركا لـ”سوريا”، بالتضامن مع باقي الأصدقاء، ففعلت فعلها قبل بداية السنة السابعة للثورة، وأخذت واشنطن نصيبها في تشريد نصف الشعب وقتل وجرح وإعاقة ما لا يقل عن مليوني سوري على الرغم من تصدر أميركا لقائمة الدول التي قدمت مساعدات لهذا الشعب بمبلغ ثلاثة مليار دولار.

إذا، فالاستنزاف الأميركي المديد لروسيا وإيران في الحرب على سوريا أنتج مفاعيله السريعة في استنزاف السوريين جميعا، في الخارج والداخل، محققا إصابات مباشرة بين صفوف المعارضين قبل صفوف المؤيدين.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات