لكن عندما تلفظُ الأوطانُ أبناءها عارٌ علينا سؤالهم عن خيارهم هذا ،
فهم لم يربحوا الجائزةَ الكُبرى واختاروا أن تكون هديّتهم رحلة في
البحر على متنِ باخرةِ فارهة ، هم قامروا بحياتهم التي كانت آخرَ
ممتلكاتهم ، لقد كان ذلك خيارهم الوحيد ..للتمسّك بالحياة
فركبوا البحرَ شيوخاً وشبّانا نساءً وأطفالا على متنِ قوارب محشوّة
بالغاز يكفي أن تُداعبها سمكةٌ متوحّشةٌ لتُفرغ حمولتها من البشر
وتُقدّمهم كوجبةٍ دسمةٍ لتلك الأسماك
وأما المشهد الأقسى على الروح فهو طوابيرُ انتظارِهم على سواحل
تركيا وغيرها من بوابات الأحلام إلى الغرب ، تراهم عائلات بأكملها
تحمل أمتعتها بأكياسٍ سوداء كقلوب من تآمروا على وطنهم أو
شاب جازف وقرر ركوب البحر لأنه ميتٌ أو معتقلٌ لا محالة إن بقي
هناك ، فلا بأس بالمجازفة وإذا تكللت بالنجاة لمَّ شمل من بقي من
أفراد عائلته على قيد الحياة
جميعهم ينتظر أن تسهو عيونُ خفرِ السواحل حتى يتسلّلوا إلى غربِ
أحلامهم فمنهم من كانت أحلامه كدُميةٍ رخيصةِ الثمن مالبثت أن
توقّفت عن العمل ، ومنهم من كانت أحلامهم صالحة للعذاب بعد
أما الناجون من البحر لا نبارك لهم عند سواحل اليونان لأن درب
الشقاء من هنا ابتدأ ..
وكلّ ما جمعته من المال في وطنك ووفرته لهذه الرحلة وخاطرت
وركبت البحر على متن قاربٍ احتمال الغرقِ فيه أكبر من احتمال
النجاة ستدفعه الآن لتجّار الحرب حتى يختصروا لك بعض اليكلومترات
وينقلوك على دراجةٍ نارية أو شاحنة خضروات ثم يرموك على طريقٍ
مجهول لتتابع سيراً على رؤوس أطراف حُلمك وروحك .. وأُصدقكم القول بأن هناك من
يقول وإن عاد الوطن لن أعود سيراً على الأقدام من باب الشوق فقد
هاجرته سيراً على الأقدام من باب الموت ولن أكررها ولو فرحاً ..!!
تُكمل الطريق متناسياً قدميك اللتين أدماهما طول المسير ووعورة
الطريق ، تهوّن على نفسك بأنك ستصل وستعوّض تعبَك بالراحة وعناءك بالرفاهية والحياة الحرة الكريمة .
تمشي وتنزف خطواتك ولا تأبه لأن القلب شاركهم النزيف فتُمنّي
نفسك بالآتي ، تُغرق بأحلامك كما أوهمك أحد ممن سبقوك حتى
تظن وكأن ملوك أوروبا ستأتي لاستقبالك وستفتح لك قصورها .
لا عجب فالنّاجون من الموت يحقُّ لهم يحلموا بالحياة ويزيّنوا حلمهم
الجديد بما شاؤوا بعد أن دفنوا أحلامهم في تراب وطنهم ومرّ
فوقها الغرباء إلى أن شوّهوها حتى في مَرقدها
وربما عند وصولك ستروقُ لك إنسانيّتهم وهلَعهم لتعبِ سنينِ الحرب
المُنعكس على وجهك بعد رحلة الشقاء تلك وخاصةً حين يأتوك
بطبيبٍ نفسيٍّ ليحاول أن يُصلح ما أفسدته الحرب في داخلك لعلّك
وقتها لن تندم وستعتقد أنك طرقت الباب الصحيح
وأنت تُسلّمهم جواز سفرك الذي تُخرجه دون أن تسأل نفسك حينها
عن مكانه لتجده في جيبك المجاور للقلب تخرجه بكل قسوة وكأنه
لعنةٌ تودّ الخلاص منها
أما عن هويتك أوأوراقك الشخصية فأخبرهم أنك تحت وابلِ الرصاص
وصوتِ الدبابات انتزعتهم من يدِ الموت وأحضرتهم معك لكنهم
غرقوا في البحر وتسمَّمت من حبرهم وحُرقة قلبك عليهم أسماكه
وأنت تفعل وتفكّر في كل ذلك لا تنسى أن تعلنَ اتحادَ فُصولك
الأربعة بفصلٍ واحد ألا وهو الحنين البارد .
ستشتاقُ لكل حجرةٍ عثرتَ بها في بلادك لأنك هنا ستقع في مطبّات
لا نجاةَ لك منها ولن تجد من يربتُ على كتفك وإن وجدت فسيمرُّ بك
كغريب يُتمتم بكلماتٍ لن تفهمها ، ليزيدك وحدةً واغتراباً
وريثما يهيِّئوا لك بيت أحلامك عليك أن تصبر قليلاً وتحتمل السكن مع
سبعة أو عشرة أشخاص في غرفةٍ لا تتسع لشخصين ، تمرّ الشهور
وأنت تنتظر دورك وصبرك نفذ منذ الأسبوع الأول ومالك سوى الله
ليمدك بالمزيد، ثم تظفر بعد طول انتظارك ببيت أحلامك الذي قد لا
نختلف على جماله ولكننا حتماً سنختلف على برده ووحشته ،
بيتٌ جميل لا روحَ فيه ولا دفء في ريفٍ ناءٍ إن احتجت رغيفَ خبزٍ
عليك أن تمشي ساعاتٍ لتصل إلى مدينةٍ مجاورة لابأس بعدها أن
تحنّ لطفولتك وأيام مراهقتك فتشتري درّاجةً لتختصر ذاك الوقت
والجهد فهي أكثر ما تحتاجه وتناسى يوماً أنك كنت تقود سيارتك
في وطنك يوم كان لك وطن .
والآن عليك أن تبدأ دروس اللغة .. اللغة التي لن تحبها يوماً وستلعن
اغترابك كل يوم حين تفشل في إتقانها بعد أن ظننت أنك تعلمت
وأتقنت كل شيء في بلادك ستعود تلميذاْ من جديد لتلقّنك أوروبا
كل يومٍ درساً جديداً .
لاتستعجب بأنك ستجد هناك من سيبتلعون كلَّ ذلك مقابل الرواتب
التي يُفع لهم دون تعب !
ولكن إلى متى ستروقك تلك الحياة الباردة ! لا أصوات جيران تُسمع
ولا رائحة أطباقهم الشهية تُشمّ ولا مآذن تصدح ولا أطفال في
الحي ضجيجهم يُزعج نومتك عند العصر صدقني ستفتقد أدق
التفاصيل التي ماكنت تكترث بها وحين فقدتها صارت أغلى ذكرياتك.
رحلة الشوق تلك لن تنتهي سيصبح قلبك بوصلة كلما عدلتها مالت
إلى مسقط رأسك وقلبك
ولو فكّرت قليلاً بتلك الرحمة والانسانية التي هبطت فجأة على بلاد
الغرب لوجدتَ أنهم شعوب المصالح المتبادلة وأنك ذات يوم ستردّ
دَينَهم بأن تتنازل عن أطفالك الذين سرقوهم منك شيئاً فشيئاً مند أن
احتضنوهم في المدارس التي لاتُعيدهم إليك إلا عند النوم لأنهم
يحتاجون وقتاً طويلاً وقلة احتكاك بينكم ليُعدُّوا منهم جيلاً قادراً
على الانخراط في مجتمعهم والنهوض ببلادهم جنباً إلى جنب مع
أبنائهم .
ولكن بعد أن تمرَّ السنين وتنطفئ نار الحرب وتصبح رماداً وركامها
معاملاً وحدائقاً ولو قُرعت طبول العودة ستعجز أن تُعيدهم معك
فأحلامهم لا تشبه أحلامك البائسة كشُرفةٍ وفنجان قهوة وياسمينة
وبيت عتيق ..
هم حلموا بما تشتهي أوروبا التي كانت ذات يوم غرب أحلامك
فحين تغرب بك شمس العُمر ستفشل بأنك تُشرق شمس أبنائك حيث
تشاء أنت
ببالغ الأسى كتبتُ لك ذلك لأنك كنت كالمستجير من الرمضاء بالنار
فيا نارُ كوني برداً وسلاماً على من احترقوا بنار الغربة واكتووا بلظى
بالشوق .
التعليقات (35)