الفن في الثورة السورية.. محترفون كُسالى وهواةٌ ضائعون ومهدّدون

الفن في الثورة السورية.. محترفون كُسالى وهواةٌ ضائعون ومهدّدون
"إذا غنيت للجائع سمعك بمعدته" هكذا يقول المثل العربي الشهير، ولعلّ هذه المقولة البسيطة على بساطتها كانت كفيلة أن تحوّل أي مبادرة فنية أو ثقافية يقوم بها السوريون خلال الأعوام الستة المنصرمة إلى مجرد حالة من الرفاهية أو الترف الفكري، ولعلّ الحامل الثقافي والفني للثورة خلال تلك الأعوام ارتبط بمفهوم الانفصام عن الواقع، في الوقت الذي كان للسلاح الكلمة المثلى والصوت الأمضى، فأحدث ذلك شرخاً بين مؤدي تلك الأعمال والجمهور المتلقي، الذي كان في الوقت نفسه يتلقى أخبار الموت المتلفز.

المظاهرات بوصفها فنُ شعبي..

كانت المظاهرات السورية مع انطلاق الثورة، والمتمثلة بـ "الهتاف" العلامة الأبرز، والسلاح الأوّل الذي استعمله السوريون للتعبير عما يريدون، ولأن التظاهر كان أمراً غير مألوفٍ في سوريا (فيما عدا مسيرات التأييد) دفع ذلك لاستيراد شعارات جاهزة، كان المورّد الأساس لها الثورات العربية التي انطلقت قبل سوريا (مصر، وتونس) لتتحول لاحقاً إلى أساس الهتافات التي جاءت بعد ذلك.

https://i.imgsafe.org/d2436980e4.jpg'>

ودفعت حالة الفقر اللغوي، والمخزون الشعري من "الهتاف" عدداً ممن تصدّوا لاحقاً لمهمة ابتداع هتافاتٍ جديدة، فتم تلحين الهتافات البسيطة بلحن شعبي بسيط، عرفت لاحقاً بـ "أهازيج ابراهيم القاشوش"، وهو شاب من مدينة حماة، ألف أكثر من 10 أغانٍ مستوحاة من روح الهتافات التي كانت تصدح بها الحناجر.

https://i.imgsafe.org/d24371cb3e.jpg'>

وباتت هتافات من قبيل (يلا ارحل يا بشار، وسوريا بدا حرية) عماد المظاهرات في جميع المحافظات، إذ تلقف المتظاهرون في كل مكان هذه الأغاني، وباتوا يرددونها، في ظل حالة فقر الهتاف التي كانوا يعيشونها، فاستبدل الشعار الوحيد (الشعب يريد إسقاط النظام، ويا درعا خنا معاك للموت) إلى الأغاني الجديدة التي تم طرحها.

ووصلت أهازيج القاشوش، لتكون لاحقاً سمفونية ألّفها الموسيقار وعازف البيانو السوري "مالك جندلي"، والذي استوحى أغنية "يلا ارحل يا بشار" وصنع منها سمفونية أطلق عليها اسم "Qashoush Symphony" (سمفونية القاشوش).

ax5ck0fzyaU

ويمكن إسقاط تجربة القاشوش، الذي أشيع حينها أنه تعرض لقطع حنجرته في مدينة حماة، وتبين بعد سنوات أنه لم يكن هو من قطعت حنجرته، يمكن إسقاطها على جميع مفردات التظاهر التي شهدتها المدن السورية، والتي تحول قسم كبير منها إلى أغانٍ ثورية في وقت لاحق.

"الجندلي" أطلق عشرات الاعمال لاحقاًَ تناولت المأساة السورية، وطاف بعشرات الحفلات في أوروبا والولايات المتحدة ليقدم موسيقاه، التي كان الحامل الأساس لها هو القضية السورية.

https://i.imgsafe.org/d257f80edf.jpg'>

2012.. عرّاب فنون الثورة..

لعل العام الثاني من الثورة السورية 2012، كان من أبرز الأعوام لصعود نجم العديد من السوريين الذي قدموا تجارب فنيّة تعنى بالثورة، ففيه انطلقت الأغاني الثورية مكنملة الأركان، وبدأت بعض برامج "التوك شو" بالظهور، فضلاً عن الأفلا الوثائقية والتسجيلية، والدرامية الطويلة والقصيرة على حدا سواء.

ويمكن اعتبار العام 2012، من أكثر الأعوام رخاء على الصعيد الفني، حيث شارك عشرات الفنانين المغتربين خارج سوريا، بإنتاج أغانٍ انتقلت بعد فترة لتحتل ساحات التظاهر، كأغاني "وصفي المعصراني، ويحيى حوا، وخاطر ضوا".

https://i.imgsafe.org/d269aea5e3.jpg'>

لكن العقبة الأساسية كانت أمام الفنانين داخل سوريا، والذين كان من الصعب (في وقت لم يكن فيه مناطق محرّرة بعد) إنتاج أعمالهم لأن الأمر كان آنذاك يحتاج الكثير من الجرأة وهي خطوة محفوفة بالمخاطر.

وعمد العديد من الفنانين السوريين، إلى إنتاج أغانيهم خارج سوريا، حيث تتم الكتابة والبروفات في سوريا، ويتم إرسالها لاحقاً لشخص متعاون خارج سوريا، ليقوم بتسجيلها، هذا في ما يخص الغناء، أمّا الفنون الأخرى، فكان الوضع فيها أصعب بكثير، ففي حالة الأفلام الوثائقية، يتم التصوير سرّاً، وغالباً يتم الحصول على نتائج بجوزة رديئة نتيجة التصوير بكاميرات صغيرة، أو كاميرات هاتف محمول، وتفقد العمل الفني جماليته، إلا أنها كانت الملاذ الوحيد آنذاك.

دراما الثورة..

أنتجت منذ العام 2012 وحتى 2017 عشرات الأعمال الفنية، لكن يبقى عمل "وجوه وأماكن" للمخرج هيثم حقي، من أضخم تلك الإنتاجات الدرامية، إلا أنه ورغم ضخامة إنتاجه، تلقى سيلاً كبيراً من النقد، والتقريع أحياناً، لأسباب عديدة، تبدأ بالنص المليء بالندوب، مروراً بأداء الممثلين، وصولاً إلى المخرج الذي دخل في دوامة الهجرة، وصوّر مسلسله في مدينة مرسين التركية، حيث غابت المشهدية، وحل بدلاً منها "الصوت" فقط.

7TohEO_GF-8

ورغم اجتذاب حقّي لأسماء فنية لامعة كجمال سليمان، ويارا صبري وغيرهم، إلا أن المسلسل لم يحقق نسبة المشاهدة المطلوبة، ولم يعرض أصلاً إلا على قناة وحيدة (التلفزيون العربي).

من جهة أخرى، أنتج شباب هواة العديد من الأعمال الدرامية، التي حقّقت نسباً عالية في المشاهدة، ببساطة لأنها اعتمدت "السوشال ميديا" أو ما يعرف بالإعلام الاجتماعي لترويجها، لكنها بقيت رهينة الزمان الذي أنتجت فيها، فلم تعد تذكر.

ويمكن القول، أن مسلسل "منع في سوريا" وهو المسلسل الوحيد تقريباً الذي صوّر داخل سوريا، وتحديداً في المناطق المحررة في مدينة حلب، هو من أبرز ما أنتج في خلال الثورة، كحالة احترافية، حيث بيع المسلسل لأكثر من قناة، وحقق أرباحاً جيدة.

dli2aYLz1Ww

لكن المآخذ على المسلسل، لم تكن أقلّ من مسلسل "وجوه وأماكن"، حيث سادت حالة "الهواة" عليه، وشكّل ضعف النصوص المقدمة، حالة من الملل لدى المشاهد، إلا أن معرفة الأوضاع التي خاضها منتجو العمل، كانت كفيلة بغض الطرف عن العديد من الجوانب.

"رئيس ونساء" عنوان آخر لمسلسل درامي أنتج في العام 2013، 2014، من تأليف وإخراج الكاتب السوري فؤاد حميرة، وإنتاج جريدة زمان الوصل وبطولة مجموعة من النجوم السوريين وعدد من الشباب الهواة وعلى رأسهم "مي سكاف".

العمل الذي كان من المفترض أن يكون احترافياً بكل ما تعنيه الكلمة، أطلّ باهتاً يحمل الكثير من إشارات الاستفهام حول طبيعة النصّ المكتوب، والذي كان من المفترض أن يكون مدهشاً مقارنة باسم "حميرة" المعروف عنه قدرته المدهشة في السبك والصياغة والحبكة.

"رئيس ونساء" وللأسف أصاب الجميع بالخذلان، وتبريرات الكاتب والمخرج لم تكن مقنعة، لتبرير الارتباك الحاصل في المسلسل.

kb_zskqGwVs

وقال "حميرة" في تصريحات لوسائل الإعلام آنذاك، إن الظروف التي صور المسلسل فيها كانت سيئة للغاية، رغم أنه صرّح بنفسه عن حجم المبلغ الذي أنتج به العمل (25 ألف دولار)، وهو مبلغ ضخم إذا ما قورن بحجم الأعمال التي تنتج في الداخل، وتكاد تقارب "رئيس ونساء" الجودة والإخراج، ولا تكلف أكثر من 100 دولار.

عشرات التجارب الأخرى، أنتجت في الداخل والخارج، لكن أياً منها لم يرقى ليستطيع وضع بصمة واضحة تترك أثرها للمستقبل، لتبقى دراما النظام هي الأقوى، والأمضى، وهذه نقطة يجب الاعتراف بها.

التمويل حجر العثرة الأبرز..

قليلة هي الأعمال الفنية، التي نجت من فخ "الانقياد" لتوجهات المنتج، أو المموّل، لكنّ ما تبقى من أعمال، كانت كذلك.

يرتبط تمويل العمل الفني، بشكل أساسي بتوجهات المنتَج الفني، وتوجهاته، ولا يمكن بحال أن يحصل عمل فني على تمويل إلا بإقناع الجهة المنتجة بتوجهات هذا العمل.

ولعبت الحالة السورية المعقّدة -متعددة الإديولوجيات- بتمييع قضية تمويل الفن الثوري، حيث تجنح المنظمات الأجنبية المعنية بتمويل أعمال فنية، إلى دعم التوجهات الليبرالية، والعلمانية، ومحاربة التدين، والتطرف، فيما تجنح مؤسسات أخرى لها طابع ديني، بتمويل أعمال تدعم هذا التوجه، ما خلق حالة فصام بين هذا وذاك وصلت إلى العنف في بعض الأحيان.

العنف ضدّ الفنّ..

العنف ضد الفن والفنانيين، حالة قديمة قدم التاريخ، لكنها في الثورة السورية أخذت شكلاً آخراً، خاصة مع بزوغ شمس حركات متطرّفة ديدنها الوحيد محاربة الفنون بوصفها "حرام".

تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، الذي ظهر في العام 2013، كان من أبرز من حارب الفنّ في سوريا، ففضلاً عن تهديم الآثار، وإحراق اللوحات الفنية والفسيفسائية التاريخية، فقد لاحق الفنانين والإعلاميين على حدّ سواء.

ونفذ التنظيم عشرات الإعدامات الميدانية، (ذبحاً أو بالرصاص) أو غيّب قسرياً، أصواتاً سورية، ماتزال إلى اليوم مجهولة المصير.

استطاع التنظيم وبعد أن سيطر على مفاصل العديد من المدن السورية كحلب المحررة مثلاً أن يختطف عشرات الإعلاميين والفنانين، ونفذ إعدامات بحقهم، كـ عبيدة بطل مراسل أورينت المغيب منذ 3 سنوات، ومؤيد سلوم، ومحمد سعيد، اللذان أعدمهما التنظيم.

https://i.imgsafe.org/d284ab8277.jpg'>

كما اختطف التنظيم العديد من ممتهني الفنون كالناشط الشهير "عبد الوهاب الملا" الذي أنتج برنامجاً ساخراً بعنوان "ثورة 3 نجوم"، إلى جانب عدد من الأغاني السياسية النقدية اللاذعة مسّت التنظيم أكثر من مرة.

https://i.imgsafe.org/d287a9253d.jpg'>

غيّب "الملا" في السابع من تشرين الثاني 2013، وما يزال مجهول المصير إلى الآن، رغم الحديت عن تصفيته من قبل أكثر من جهة.

UdIw8PNDIBg

ستّ سنوات، انقضت من عمر الثورة السورية، لم تنتج ولا حتى ستّ أعمال فنية معتبرة يمكن القول إنها أعمال حقيقية، واقتصر الإنتاج على الهواة، الذي ملأوا هذا الفراغ في ظل غياب المحترفين، الذين تحول بعضهم للسياسة كجمال سليمان، فيما بقي الآخرون حبيسي المداخلات التلفزيونية.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات