هل يفعلها ترامب وينهي أمريكا؟

هل يفعلها ترامب وينهي أمريكا؟

لم يكد يمر أسبوعان على تستلم ترامب مهام منصبه الرئاسي، حتى شغل العالم بسلسلة قرارات تنفيذية صادمة للعديد من الجهات محلية ودولية، فحتى المتشائمين بشأن سياسات ترامب توقعوا أن يتريث قليلا في مسألة تطبيق وعوده الانتخابية، خاصة وأن تأثيرها لا ينحصر فقط بالشأن الداخلي للولايات المتحدة، بل تعداه للشأن العالمي، وهو ما يمكن إعتبارهُ إنقلاباً على كافة السياسات والمعايير السائدة والناظمة لعلاقة الولايات المتحدة ببقية دول العالم.

حتى قبل أن يتسلم مهام منصبه الرئاسي، صرح ترامب أنه بصدد القيام بتغيير جذري في منظومة الحكم من خلال إقالة وإستبدال العشرات من المسؤولين دفعة واحدة، هذا الأمر الذي لم يحدث على مر تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان يكتفي الرؤساء الأمريكيون بتغير الإدارة إضافة لبعض الحقائب السيادية، لكن ما صرح به ترامب إعتُبر إنقلابا حقيقياً وجذرياً، وهو ما وضعه في حالة صدام مع وكالة الإستخبارات الأمريكية تحديداً ودفعها لتسريب معلوماتٍ عن إمتلاك روسيا لوثائق فاضحة حول ما قيل إنه شذوذ ترامب الجنسي. 

من الصين شرقاً إلى أوروبا وروسيا شمالاً مرورا بالشرق الأوسط وصولاً إلى المكسيك جنوب الولايات المتحدة الأمريكية، من المتوقع أن تتأثر كافة قارات العالم بقرارات ترامب، الذي يحاول الظهور بمظهر الرئيس الصارم والجاد في تطبيق ما وعد به، والتعامل مع الداخل والخارج بأسلوب الصدمة، وهو ما دفع البعض للقول إذا كان ترامب قد أصدر كل هذه القرارات خلال أول عشرة أيام من حكمه فما الذي سيفعله فيما سيتبقى له من فترة ولايته التي ستمتد لأربع سنين؟

يمكننا القول إن ترامب قد بدأ فعلياً بتنفيذ أهم وعوده الانتخابية باستثناء واحد فقط، وهو مسألة العلاقة مع روسيا ورفع العقوبات المفروضة عليها، حيث صرح بعد لقاء جمعه برئيسة الوزراء البريطانية: "أن الوقت لا يزال مبكراً لرفع العقوبات"، وهو ما يضع علامة إستفهام كبيرة حول هذا التصريح كونه كان متحمساً جداً لإحداث نقلة نوعية في العلاقة مع روسيا، فهل كان لتسريبات وكالة الإستخبارات الأمريكية علاقة بهذا الأمر؟ ربما، فالتريث هنا غير مبرر خاصة وأن ترامب أغضب الجميع ولم يبالي، فلماذا تريث في مسألة تحسين العلاقات مع روسيا وهو أشد المتحمسين لها؟ مقبل الأيام كفيل بكشف هذا السر.

كثيرون هم الذين توقعوا أن يتخلى ترامب عن كثير من وعوده الانتخابية، وعللوا توقعاتهم هذه بأن الحملة الانتخابية وإستقطاب أصوات الناخبين تقتضي هكذا وعود، لكنها تختلف عن ممارسة الحكم على أرض الواقع، وأنه سيكون محكوماً بسياسات الدولة وخطوطها العريضة الناظمة للعلاقات مع بقية دول العالم، لكنهم يتناسون أن ترامب قد بدأ فعلا بتغيير هذه المنظومة بما فيها هيئة الأمن القومي، وهو ما سيحرره من أية قيود تحول دون تنفيذ سياساته.

داخلياً أمر ترامب بتجميد قرار الرعاية الصحية المعروف إختصاراً ببرنامج "أوباما كير" وأصد قراراً بمنع مواطني 7 دول إسلامية من دخول الولايات المتحدة بما فيهم حملة بطاقة "الغرين كارد" وهو ما يعتبر سابقة في تاريخ الدول وخاصة الولايات المتحدة، فقد تعودنا أن المواطن العربي هو فقط من يعاني في تنقله بين الدول العربية، حتى أولئك الذين يحملون وثائق الجنسية الخاصة ببعض الدول، وعلى رأسهم حملة الوثيقة المصرية من الفلسطينيين.

خارجياً وقع ترامب على قرار البدء بإجراءات بناء الجدار مع المكسيك، حتى مع رفض الأخيرة التعاون أو التكفل بنفقات البناء، وهو ما دفعه لفرض ضرائب عالية على المنتجات المستوردة من المكسيك، الأمر الذي يمكن إعتباره زيادة تكلفة على المواطن الأمريكي كونه هو من يشتري هذه المنتجات الزراعية في أغلبها، المفارقة المذهلة هي تشبيه ترامب لبناء الجدار مع المكسيك بجدار الفصل العنصري الذي قام الكيان الصهيوني ببناءه في فلسطين المحتلة، ليس هذا وحسب بل والتفاخر به.

قرارات ترامب الخارجية خاصة تلك المتعلقة بالناتو وإنسحاب بريطانيا من الإتحاد الأوروبي وكذلك تشجيع بقية دول الإتحاد على الانسحاب منه أثارت مخاوف هذه الدول، وإعتبرتها تهديدا مباشراً لها، خاصة بعد الإنتقادات التي وجهها لألمانيا والمستشارة ميركل على إستضافتها أعداداً كبيرة من اللاجئين، وإعتباره أن اللاجئين تهديد لن يقبل به، وسيستعيض عنه بإنشاء مناطق أمنة في سورية، وبتمويل عربي، فالولايات المتحدة مديونة ولا قدرة لها على تمويل إنشاء هكذا مناطق بحسب تعبيره قبل أسابيع. 

لعل أهم قرار خارجي يمكن لترامب إتخاذه هو ذاك المتعلق بمصطلح الحرب على الإرهاب وحجم مشاركة الولايات المتحدة فيه، حيث أكد أنه سيعطي الأوامر بتكثيف الضربات لتنظيم الدولة الإسلامية وبقية الفصائل المصنفة إرهابية، وأنه لا يمانع في إرسال قوات على الأرض، الأمر الذي سيؤثر نوعياً على مسار الأحداث في المنطقة، ويعيد الذاكرة بنا للحرب الأمريكية على أفغانستان والعراق، والتي كلفت الولايات المتحدة الأمريكية فاتورة مالية وبشرية هائلة، كادت تتسبب بإعلان الولايات المتحدة إفلاسها أواخر ولاية بوش الإبن وبداية ولاية أوباما، الذي نجح بالخروج ببلاده من هذه الأزمة. 

لطالما كان إفتعال الأزمات الخارجية من قبل الإدارات الأمريكية وسيلة للهروب من أزمات سياسة وإقتصادية داخلية، وذلك كونها تسمح بتشتيت الإنتباه باتجاه تهديد خارجي مصطنع يساعد في توحيد الداخل خلف هذه الإدارة أو تلك، وما حروب كوريا وفيتنام إلا مثال على هذه الأزمات، أما اليوم وبعد زوال خطر تهديد الإتحاد السوفييتي والشيوعية، فقد بات اللعب على هواجس ومخاوف المواطن الأمريكي خصوصاً والغربي عموماً هو الشماعة التي يستخدمها المتطرفون والعنصريون ولاحقاً التيار الشعبوي الصاعد في الغرب.

بالتوازي مع عزم ترامب تصعيد الحرب ضد الجماعات الجهادية في المنطقة، فإنه ينوي إعلان جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، ما يعني نية ترامب المبيتة لخوض حرب مفتوحة ضد كل ماهو مسلم، وهو ما سيوتر العلاقات الأمريكية مع دول عدة على رأسها تركيا، وسيسهم في زيادة الكراهية تجاه الولايات المتحدة وسيؤثر حتما على تعاون هذه الدول معه في مشروعه المعلن الحرب على الإرهاب، هذا الإرهاب الذي قالت عنه "تيريزا ماي" رئيسة وزراء بريطانيا الحليف الأوثق للولايات المتحدة أنه لا يمكن القضاء عليه مالم يتم القضاء على الأيديولوجيا نفسها، وهو ما يمكن إعتباره أخطر وأهم تصريح رسمي لمسؤول غربي، كونه يشي بأننا مقبلون على مرحلة صعبة وحرب قد تستهدف المسلمين في صلب عقيدتهم.

ترامب طلب من مسؤولي هيئة الأمن القومي تقديم خطة تهدف لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية وأمهلهم شهراً واحداً لإنجازها، لكن من المؤكد أن هكذا خطة لابد وأن تصطدم بعوائق كثيرة، فمنذ إتخاذ الولايات المتحدة لما يسمى "الإسلام الراديكالي" عدوا لهاً وقيامها بغزو أفغانستان والعراق، ونحن نشاهد الحرب على "الإرهاب" مستمرة لا تكاد تتوقف ليس في سورية والعراق وحسب وإنما في دول كاليمن وليبيا ومصر وباكستان ومالي وغيرها، فما هو الجديد الذي يمكن أن تقدمه إدارة ترامب في هذه الصدد؟ 

إدارة ترامب لن تكون قادرة على تشكيل التوازن المطلوب في العالم، حتى مع حاجة الولايات المتحدة لهكذا توازن يضمن الحفاظ على الأمن القومي، الذي يحتاج لصياغة إستراتيجية جيوسياسية تستنبط حلولا ناجعة لما يعيشه العالم من إضطرابات تهدد أمنه وإستقراره، بل على العكس قد تؤدي سياسات ترامب لخلق إضطرابات جديدة وتعميق الموجود لتصل مرحلة تستعصي فيها على الحل.

 ترامب وبعد توقيعه لقرار منع مسلمي 7 دول من دخول الولايات المتحدة الأمريكية وهو في مواجهة مع شريحة عريضة من الأمريكيين، حيث أعلن حكام عدد من الولايات الأمريكية رفضهم لقرار ترامب في حين أصدرت عدة محاكم أمريكية قراراً يقضي بالسماح لحملة "الغرين كارد" واللاجئين بالدخول إلى الأراضي الأمريكية وهو ما يمكن إعتباره صفعة لترامب فاقمت من معاناته مع شرائح واسعة من الأمريكيين.

ترامب وخلال محادثة هاتفية مع الملك سلمان، أكد على عمق العلاقة والتحالف الذي يجمع الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية، وضرورة مكافحة الإرهاب وإنشاء مناطق آمنة ليس في سورية وحسب بل وفي اليمن، لكن المفارقة تمثلت في إتفاق الجانبين على ضرورة وضع خطة شاملة للتعامل مع إيران وأنشطتها الرامية لزعزعة الاستقرار في المنطقة، وهو ما يمكن إعتباره تحولاً ذا مغزى يعكس حاجة ترامب الماسة لحلفاء إقليميين في حربه على ما يسمى الإرهاب، لكنه وفي نفس الوقت يمثل صدمة لصانع القرار الإيراني الذي تفاءل كثيرا بوصول ترامب لسدة الرئاسة، مفضلا إياه على المرشحة هيلاري كلينتون والرئيس أوباما الذي أنجز الاتفاق النووي مع إيران وأطلق يدها في المنطقة. 

شخصية ترامب السيكوباتية، شخصية غامضة متهورة لا يمكن التنبؤ بأفعالها، وعلينا أن نتوقع أي شيئ منها، فهو ورغم أنه من أشد مناصري الكيان الصهيوني، حيث ضمت إدارته 11 أمريكياً يهوديا إضافة لمسؤولين مؤيدين لإسرائيل، إلا أنه وخلال بيان إدارته في ذكرى "الهولوكوست" أسقط عبارة اليهود ما إستدعى إحتجاجات واسعة لمنظمات يهودية، وهو ما يظهر التناقض الحاد بين أقوال وأفعال هذا الرجل، حيث يحاول التوفيق بين الواقع ومتطلباته من جهة وبين الأماني والأحلام من جهة أخرى، فهو يرفع شعار أمريكا أولاً ويحلم ببسط نفوذها كقطب أوحد على العالم لكنه يضع نفسه في مواجهة مع الداخل الأمريكي قبل الخارج، الأمر الذي لن يساعده مطلقاً على تحقيق ما يحلم به

ترامب المدفوع بعنصرية جارفة ربما يعتقد أنه الوحيد الذي يعيش على هذا الكوكب وأنه السيد الذي يجب أن يأمر فيطاع، وأن على العالم أن ينصاع لإرادة الولايات المتحدة وعلى كافة الدول أن تقدم مصالح أمريكا على مصالحها الوطنية، وهو مالا يمكن القبول به خاصة من طرف دول صاعدة قوية وجيران يناصبهم ترامب العداء ويتعامل معهم بفوقية، متناسيا أن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها تقوم على خليط تنوع إثني وديني متنوع إستجلب الكفاءات ورؤوس الأموال وأسهم في نهضتها وتقدمها، هذا التقدم الذي بات مهدداً في ظل حكم ترامب، الأمر الذي قد يتسبب بشرخ عميق في نسيج الولايات المتحدة الأمريكية المجتمعي وقد يؤدي في نهاية المطاف لتفككها. 

بالأمس أعطى ترامب لقواته الخاصة الإذن بتنفيذ أول عملية إنزال عسكري في عهده، فخلفت سقوط مروحيتا أباتشي ومقتل وجرح عدد من الجنود الأمريكيين إضافة لمقتل وجرح العشرات من المدنيين العزل في محافظة البيضاء باليمن، وهذا الأمر لا يعتبر فاتحة خير لترامب، الذي يبدو متحمساً جداً لفرد عضلاته وإظهار قوته وهو ما سيوقعه بأخطاء جسيمة ستؤثر على الولايات المتحدة قبل غيرها، فسياساته العدوانية تجاه الجميع قد تعطي نتائج عكسية لما وعد به من إزدهار للإقتصاد الأمريكي، ومن يدري فقد نشهد تورطاً عسكرياً أمريكياً مباشراً ليس في منطقتنا وحسب بل وفي أكثر من منطقة حول العالم، لتجد الولايات المتحدة نفسها منخرطة في أكثر من مواجهة نتيجة طيش هذا الرجل الذي لا يمكن التنبؤ بأفعاله، فيكمل ما بدأه بوش بالقضاء على الاقتصاد الأمريكي.

تقف الولايات المتحدة اليوم أمام مفترق طرق، وربما سيتوجب عليها الإختيار بين أمرين إنهاء ترامب وعزله أو الإبقاء عليه والقبول بإحتمال إنهيار الإتحاد على يديه، فكل ما إتخذه ترامب من قرارات حتى الآن يعطي نتائج عكسية لما أراده وما توقعه الأمريكيون منه، فإدارة محافظة على رأسها متطرفون وعنصريون كوزير الدفاع "جيمس ماتيس" الملقب بـ "الكلب المجنون" الذي أذله العراقيون، والذي يدعم الاتفاق النووي مع إيران، و "ستيفن بانون" كبير المستشارين والمخططين الاستراتيجيين، والمعروف بآرائه العنصرية وإيمانه بتفوق العرق الأبيض، والجنرال المتقاعد مايكل فلين مستشار الأمن القومي، وهو رجل يؤيد التقارب مع روسيا ويعتبر أن أولويته هي "محاربة التشدد والإرهاب". 

ترامب وخلال حفل تنصيبه تعهد بالقضاء على الإسلام المتطرف ومسحه عن وجه الأرض، حتى دون الإشارة ولو بكلمة إيجابية واحدة عن الإسلام كدين عالمي، وهو بهذا ربما يكون ديماغوجياً أحمق لكنه ومع ذلك يبقى الرئيس الأصدق في إظهار عدائه لنا.

إذا ما أضفنا لكل ما سبق عداوة ترامب لأوروبا والصين والمكسيك وكندا، وحبه لإسرائيل وروسيا، وسماحه ببناء المستوطنات اليهودية ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والتهديد بترحيل المهاجرين من أمريكا ومنع المسلمين من دخولها وتصنيف معظم الأحزاب والجماعات الإسلامية في خانة الإرهاب، وعزمه على التدخل العسكري في إطار ما يسمى الحرب على الإرهاب، وإطلاق يد روسيا في الشرق الأوسط وأوروبا التي تخلى عنها ويعتزم الانسحاب من حلفه معها مالم تدفع له، إضافة لتخليه عن حلفاءه الآسيويين، جميعها عوامل تعمق الشرخ وتنشر العداء لتجعل مما سلف صواعق لقنابل مدمرة إذا ما إنفجرت فإنها لن تبقي ولن تذر.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات