شتم البرجوازية الوطنية وتفتيت المكوّن السني!

شتم البرجوازية الوطنية وتفتيت المكوّن السني!
اختبأ نظام البعث في مشروعه للاستيلاء على سورية، وراء الأقليات وسنة الأرياف، وفي الوقت الذي كانت تعقد حلقات الدبكة والأهازيج الشعبية في ساحات حوران ودير الزور والرقة وقرى حمص والقلمون والساحل السوري، ترحيباً بالنظام الثوري الجديد الذي اتخذ شرعيته بعد انقلاب الثامن من آذار عام 1963 من رفع شعار "حكم العمال والفلاحين والكادحين "ضد" البرجوازية الرجعية الانفصالية" ممثلة بالطبقة السياسية الدمشقية والحلبية على وجه التحديد (رغم وجود برجوازيين من باقي المدن)، كان ضباط اللجنة العسكرية التي هندست انقلاب البعث ووضعت ابن حوران اللواء زياد الحريري واجهة سنية له قبل أن تقوم بطرده بعد أسابيع عدة من نجاح الانقلاب.

كان ضباط هذه اللجنة يقومون بتسريح مئات الضباط السنة من الدمشقيين والحلبيين والحمويين، بحجة أنهم مؤيدين لحكم الانفصال الأسود، وكان على كبار البرجوازيين الوطنيين، الذي بنوا اقتصاد سورية الحديث ما بعد الاستقلال، بالعمل والاستقامة والنزاهة، مع الرغبة في الربح والنجاح طبعاً، كان عليهم أن يغادروا سورية هرباً ببعض أرزاقهم وجنى عمرهم، أو حفاظاَ على حياتهم، كما حدث مع رئيس الوزراء خالد العظم.. الذي التجأ إلى السفارة التركية بعد انقلاب البعث، ومنها إلى بيروت، حيث قضى أيامه الأخيرة وهو يعتاش من كتابة ونشر مذكراته في جريدة (النهار) بعد أن صادرت السلطات البعثية حتى بيت عائلته في شارع الثورة! 

وفي الوقت الذي كانت الأفراح والليالي الملاح تعم الكثير من الأرياف السنية ابتهاجاً ببزوغ عهد حكم العمال والفلاحين والكادحين، كانت دمشق وحلب تتضامن مع انتفاضة حماة عام 1964 وأحداث قصف جامع السلطان، كما كتبت جريدة (أخبار اليوم) المصرية، بتاريخ (2/5/1964) منوهة إلى أن المجلس العرفي في حلب أصدر أحكام اعدام بحق المضربين، ومما قالته الصحيفة: 

" أعلن المحامون والأطباء و المهندسون وسائر النقابات السورية استمرار الإضراب احتجاجا على حمامات الدم وأحكام الأعدام التي اصدرتها السلطات البعثية .ردا على الإضراب العام في سوريا.. وقام الحرس البعثي السوري بفتح المتاجر والمحلات بالقوة وحطم محتوياتها.. فأرسل أصحاب المحلات المنهوبة في دمشق شكوى إلى المسئولين يستنكرون فيها أعمال العصابات التي لجأ إليها الحرس البعثي".

وقد جددت دمشق احتجاجاتها عام (1965) حين اعتصم مجموعة من التجار والدمشقيين المناوئين لحكم البعث في الجامع الأموي ضد أحكام التأميم الظالمة التي طالت حتى ورشات صناعية محدودة، فما كان من النظام البعثي إلا أن اقتحم الجامع بالدبابات وقتل بعض المعتصمين وأصدر أحكام إعدام بحق بعضهم الآخر ممن أسماهم "عملاء الرجعية وأعوان الاستعمار".

وفي الوقت الذي كان يتغنى فيه البعث بجماهريته وانتشاره في الأرياف وبعض المدن السنية ذات الطابع الريفي المتمدن، كان القيادي البعثي د. سامي الجندي، ابن مدينة السلمية، يشكو في كتابه (البعث) الذي وضعه عام 1969 من أن البعث فشل في أن يكتسب شرعيته في دمشق، فيكتب في ذلك قائلا: 

" خطيئة البعث المميتة أنه شتت قواه حينما كان ينبغي عليه أن يركز أولا في دمشق، غير أنه استصعب اقناعها وارتضى لثورته قناعة المناضل الكسول. لم يدرس البعث بناء دمشق الاجتماعي الذي تكوّن خلال آلاف السنين، فبات إرثا عضوياً... قنع البعثيون أن دمشق لا يمكن أن تكون بعثية فأقاموا بينهم وبينها جداراً من المستحيل ". 

هكذا كان حال البرجوازية الوطنية في دمشق وحلب تاريخياً منذ بداية حكم البعث. ولم يكن الدمشقي صلاح الدين البيطار ولا الحلبي أمين حافظ، ينتمان لهذه البرجوازية كما يحلو لمن يريد أن يذكرنا بهؤلاء. فقد كان صلاح الدين البيطار ابن حي الميدان، منبوذا اجتماعياً حين عاد من جامعة السوربون ليدرس الفلك والفيزياء في ثانوية التجهيز، ويبث أفكاره اليسارية التي جعلت أهالي الطلاب يشتكون ضده وضد ميشيل عفلق فأوقفا عن التدريس. 

أما أمين الحافظ الذي اتخذه العلويون واجهة لمشروعهم الطائفي، بعد أن انسحب (لؤي الأتاسي) من قيادة مجلس الثورة بسبب إصرار الجناح العلوي على إعدام الرفاق الناصريين، فكان يمثل العسكرتاريا الساذجة، التي انخرطت في الشعارات الثورية، ضد البرجوازية والرجعية و"طبقة التجار والمستغلين"، في الوقت الذي كانت تُستَغل فيه أسوأ استغلال لتمرير المشروع الطائفي العلوي، الذي كشّر عن أنيابه في انقلاب 23 شباط الذي قاده صلاح جديد وحافظ الأسد ضد أمين الحافظ عام 1966. 

حين جاء حافظ الأسد إلى السلطة  بانقلابه العسكري عام 1970، كان صلاح جديد قد استكمل تهيئة المشروع الطائفي الذي قطف ثماره الأسد بحركة غادرة. لقد استكمل جديد علونة القسم الأساسي من الجيش والأمن، وكانت الحال على النحو التالي: 

-طائفة علوية تختبئ وراء شعارات البعث والتقدم والاشتراكية للاستيلاء على الدولة وتقوم بتمكين نفوذها في الجيش والأمن.. بعد مباركة ضباط الأرياف لتسريح الضباط السنة من أبناء المدن. 

-شارع سني ريفي مؤمن بشعارات البعث، وينظر باحتقار للبرجوازية الدمشقية والحلبية والإقطاعية الحموية التي وصفت بأنها "طبقة التجار والمستغلين من بقايا الإقطاع والبرجوازية وأعداء الثورة" 

-برجوازية محاصرَة بحملات التأميم، والقرارات الاقتصادية الجديدة التي تحاول أن تجردها من قوتها الاقتصادية، ومكروهة من الشارع البعثي الذي عتم على تاريخها الوطني، وحوّل إنجازاتها إلى حملات نهب وسلب لخيرات الوطن، وصوّرها في أعين الجميع أنها طبقة استغلالية حان الوقت للقصاص التاريخي منها.

كانت البرجوازية الوطنية المدينية، هي الطبقة السياسية الوطنية التي كانت تحاول أن توفق بين كل التيارات السياسية، وكانت العمود الفقري للمكوّن السني. وكانت تتمتع بعلاقة طيبة مع الطبقات الأخرى في حالة نهوض اجتماعي ووطني كانت تبني وتؤسس لجامعات ومستشفيات ومصانع وشركات رابحة حتى وهي تحت الانتداب الفرنسي (انتزاع مشروع عين الفيجة من سلطات الانتداب وتمويله أهليا، وتأسيس شركات الاسمنت والكونسروة ومصنع الجوخ... وغير ذلك) وقد أدرك البعث العلوي الأقلياتي، ثم حافظ الأسد من بعده، أن ضرب المكون السني  وتفتيته لا يكون إلا بضرب البرجوازية الوطنية وتشويه سمعتها، لأن هذه البرجوازية كانت تمثل السنة تاريخياً.. فعمد إلى تجريدها من كثير من حقوقها والتضييق عليها، وطرد ممثليها من الجيش والشرطة، ثم تطفيشها خارج البلاد بقرارات التأميم الظالمة، ثم دأب على تصويرها في أدبيات البعث باعتبارها طبقة "التجار والمستغلين" وعدوة ثورة الجماهير.

لكنه في وقت لاحق وخلال أحداث الثمانينات حينما بدت بوادر تحالف بين هذه الطبقة وبين التيار الديني المحتج، ساوم من تبقى منها، تحت الضغط والإكراه وتهديدات أفرع الأمن المتغولة كي تقف معه ضد الإخوان المسلمين، وتنضم عمليا لتحالف الحكم... فلم تجد بقايا هذه البرجوازية من الطبقة التي عز عليها أن تغادر البلاد إلا أن تنصاع، وكانت في الأساس مجردة من أي قوة فاعلة يمكن أن تنتج تغييراً يُذكر!

بعد أن تحالف مع بقايا البرجوازية الدمشقية والحلبية المنهكة في الثمانينات، وكانت هذه آخر من انضم لحلف النظام البعثي بعد كافة الأرياف في حوران ودير الزور والرقة والساحل وغيرها... دأب النظام على الترويج لفكرة أن ما مكن بقاءه هو هذه البرجوازية. متجاهلا أنه عمل منذ البداية على إثارة التناقض بين الريف والمدينة، وكسب الريف إلى صفه واستعداه ضد أبناء المدن.. ومتجاهلا أنه أتى إلى الحكم بالقوة، وأنه استمر بالحكم بالقوة بدليل أن حافظ الأسد ارتكب سلسلة من المجازر كي يخمد حركات الاحتجاج ضده.. وهذا يعني أنه لو كان بإمكانه الاستمرار بالحكم بدعم البرجوازية الدمشقية والحلبية وحدهما وقدرتهما على التأثير وإقناع الشارع، لما اضطر أن يستخدم فرق الإعدام وكتائب الجيش والمخابرات ويسم عهده بالسمات القمعية التي عرف بها. 

السوري الذي يبلغ من العمر أربعون أو خمسون عاما اليوم، تربى على كره التجار وهجاء البرجوازية والإقطاع والريبة من كل رجل أعمال سني ناجح... قبل أن يكتشف أن هؤلاء كانوا أصحاب مشاريع وأولاد عائلات، ولديهم مخافة من الله، مهما اشتدت المنافسة التجارية وكبرت أرباحهم، وقبل أن يروا طبقة العسكرتاريا العلوية التي استولت على مقدرات البلاد واقتصاده بالقوة لا بالمنافسة، فلم تترك وسيلة للنهب العلني والسلب وقطع أرزاق الناس، وتغريغ جيوبهم، ثم اقتيادهم إلى أفرع الأمن ليعاقبوا إذا احتجوا بكلمة، في دولة صارت مافيا نظامية تشرّع وتبتكر أساليب الفساد والنهب، وتصدّرها في مشاريع قوانين ومراسيم رئاسية، ثم تنتج برجوازية سنيّة جديدة تعمل خادمة لديها، كما أنتجت مثقفيها وفنانينها المنافقين!

لقد تم طمس تاريخ البرجوزاية الوطنية في السياسة والاقتصاد معاً، وألصقت بها كل الموبقات من قبل النظام  ثم من أنصار الثورة اليوم للأسف. فقد كان تشويه هذه البرجوازية هو وسيلة لتفتيت المكوّن السني وزرع الكره والبغضاء بين أبنائه، ومنعه من أن يجتمع ويتوحد لاستعادة حقه التاريخي. وكانت الاستهداف الأساسي هو برجوازية دمشق وحلب باعتبارهما المدينتان اللتان تمثلان مركز الثقل الحضاري والتجاري في سورية المتعددة.  لقد شُتمت البرجوازية من البعث ومن الأقليات ومن أبناء الريف السني ومن مثقفي اليسار الذين استولوا على الثقافة السورية خلال العقود الأربعة الماضية فوسموا نزار قباني وعمر أبي ريشة بالرجعية. 

لكن الثابت أن المكون السني وحّدَه الدم الذي أريق بلا رحمة خلال سنوات الثورة. ولهذا تعاضد المكوّن السني الذي تعرّض لكل محاولات التفتيت ودق الأسافين بين أبنائه من قبل النظام البعثي العلوي ولو عاطفياً. فقد اكتشف أبناء حوران أن مكانتهم عند النظام حين انتفضوا ضده، ليست بأفضل حالا من الحمويين، حين هددّهم بأن يلقنهم درس 1982 الحموي نفسه. واكتشف الحمصيون أن دماثتهم وطيب معشرهم لم تشفع لهم لدى النظام حين ثاروا ضده، فعاملهم باللؤم ذاته الذي عامل فيه الدمشقيين تاريخياً. ولهذا هتفت إدلب حلب وحمص  لدرعا، ودرعا لدير الزور... وكانت أي مجزرة تؤلمنا جميعاً وتنسينا التمايزات التي رسخّها النظام بين المكوّن السني. 

نحتاج قبل أن نلوم الأقليات أن ننظر إلى حال الموزاييك السني الموزع بين صراع الريف والمدينة، وبين صراعات اليمين واليسار الثقافية، وبين توزيع أوسمة الثورية والخنوع الشعبية، وبين صراعات مناطقية أذكاها النظام عن عمد. 

نحتاج أن نكون معاً من جديد... وأن نعيد الاعتبار للبرجوازية الوطنية، التي طُردت من بلاد أحبتها... فمات البرجوازي الحلبي ناظم القدسي آخر رئيس جمهورية قبل انقلاب البعث منفياً، بعد أن رفض حافظ الأسد عودته ليرى وطنه ولو لساعات قبل أن يموت.. ومات الدمشقي خالد العظم أبو الاقتصاد السوري منفيا في بيروت، وكذا شكري القوتلي الذي بالكاد سمح له أن يدفن في دمشق، ومثلهم المئات من التجار والوزراء الشرفاء ممن يحمّلهم بعض نشطاء الثورة اليوم مسؤولية تمكين حكم البعث، كي يستمر التراشق والاتهامات بين أبناء المكوّن السني المفتت.. حتى وهو يثور لهدف واحد وهو اقتلاع حكم أذلّنا جميعاً!   

التعليقات (4)

    الحمصي السنّي

    ·منذ 7 سنوات شهرين
    أبدعت وصدقت، بإذن الله سنعود لنبني سوريا الجديدة ونكون فيها كلنا أخوة والأهم أن نعود لنحب بعضنا بعضاً، ولكن نحن بحاجة لبعض الصبر فما فعله الطغاة بخمسون عاماً لايمكن أن تمحيه ثورة عمرها أعوام قليلة.

    أرض المباركة

    ·منذ 7 سنوات شهرين
    مقال رائع و يعطي إجابة لسؤال كيف حكمة الأقلية على الأكثرية مدة 45 عاما بل 50 عاما منذ و وصول حزب البعث الطائفي البغيض إلى الحكم ،، لكن السؤال الحقيقي هو كيف تمكنت الأقلية أساسا من الوصول أو حتى القدرة على تسلك طريقها بدون إدراك من الأكثرية النخبوية السنية حتى استطاعو من وضع أيديهم على الجيش و الشرطة و فرغو الرتب العسكرية من السنه بدون أن يشعر بهم أحد

    وجيه

    ·منذ 7 سنوات شهرين
    زياد الحريري هو من حماه وليس من درعا

    Syro

    ·منذ 7 سنوات شهرين
    صرتو عم تدافعو عن مايسمى "البرجوازية الوطنية" يلي كانت محتكرة البلد بأيادي كم عائلة وضيعة استفادت تحت حكم الاحتلال العثماني. فلتسقط البرجوازية الوطنية ولتسقط طائفيتكم القذرة معها.
4

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات