مؤتمر أستانا تسوية عسكرية بنكهة سياسية!

مؤتمر أستانا تسوية عسكرية بنكهة سياسية!
منذ أعلنت روسيا عن نيتها عقد مؤتمر أستانا بهدف إيجاد تسوية للأزمة السورية، وهذا المؤتمر مثار جدل لا ينتهي، ولعل السبب يرجع في جزء كبير منه إلى الضبابية التي تحيط به خاصة لجهة الأطراف المشاركة والأسس التي ستعتمدها المحادثات، خاصة مع وجود أكثر من نسخة للتفاهمات الموقعة، فإذا ما أضفنا إليها الخروقات التي ارتكبها نظام الأسد والميليشيات الشيعية بل وروسيا نفسها، فإن الصورة تصبح شديدة القتامة.

روسيا تعتبر نفسها الراعي الرسمي للشأن السوري، ولهذا فإنها تحاول قدر الإمكان إبعاد الولايات المتحدة عن المؤتمر علها تستطيع إنجاز تسوية تكون على مقاس تطلعاتها وآمالها الكبيرة الناجمة عن إستفرادها بالشأن السوري، خاصة مع تدخلها العسكري المباشر وما حققته من نصر مزعوم في مدينة حلب، وهي بهذا تسابق الزمن في محاولة استقطاب الفصائل السورية المصنفة معتدلة، مستفيدة من التعاون التركي اللامحدود والموافقة الإيرانية وإن على مضض، لكن ما لا تدركه عقلية الديكتاتور الروسي بوتين هو حقيقة أن الراعي والوسيط يجب أن يكون محايداً وليس طرفاً في الصراع، وأنه كان يتوجب عليه إحترام الهدنة الموقعة وإجبار نظام الأسد وميليشيات إيران على الإلتزام وإن على سبيل تقديم بادرة حسن نية تبرر للفصائل السورية المشاركة وتهدئ الشارع الغاضب، لكنه لم يفعل.  

عند الحديث عن اتفاق الهدنة فإننا نتوقع توقف كافة العمليات القتالية، أما الخروقات فإنها تلك التي يمكن إعتبارها إشتباكات محدودة نتيجة تداخل خطوط القتال أو عدم التنسيق بين الأطراف المتقاتلة، أما ما يحصل فلا يمكن إعتباره بأي حال من الأحوال خروقات، بل حرب حقيقية خاصة في ظل إرتكاب الطيران والدبابات لمجازر في أكثر من محافظة سورية أخرها مجزرة دير قانون، إضافة لمحاولات اقتحام وادي بردى التي لم تتوقف منذ توقيع إتفاق الهدنة.

الشبكة السورية لحقوق الإنسان وثقت في تقرير لها نشره موقع أورينت نت بتاريخ الخامس عشر من هذا الشهر، وثقت أكثر من 318 خرقاً، 298 عبر عمليات قتالية، و20 عبر عمليات اعتقال، 277 منها على يد قوات الأسد حصل معظمها في محافظة حماة حيث بلغ عدد الخروقات فيها منذ دخول الاتفاق حيِّز التنفيذ 105 خرقاً، تلتها حلب بـ 46 خرقاً، ثم إدلب بـ 40, كما سجل التقرير 32 خرقاً في ريف دمشق و30 في حمص، و19 في درعا، و3 خروق في دمشق، و1 خرقاً في كل من الحسكة ودير الزور،  وسجَّل التقرير 34 خرقاً على يد القوات الروسية منها 13 في حلب، و3 في حماة، و18 في إدلب، مقابل توثيق التقرير 7 خروقات ارتكبتها فصائل المعارضة المسلحة في كل من محافظتي حلب وحماة. فهل هذه هدنة يمكن لها أن تمهد لمحادثات تنتج تسوية تنهي الصراع الدائر منذ حوالي ست سنين؟

من الخطأ تكرار محاولات ابتزاز الشعب السوري وإجباره على القبول بحلول وتسويات سياسية لا تلبي الحد الأدنى من مطالبه المتمثلة بإسقاط (منظومة) الحكم الأسدي، ولا تراعي التضحيات العظيمة التي قدمها هذا الشعب المكلوم، خاصة بعد ما إرتكبه نظام الأسد وداعميه الإقليميين والدوليين من مجازر وما أحدثوه من خراب ودمار، ومع هذا فإن محاولات الإبتزاز مستمرة حيث تكون هجمة شرسة تتمثل بقصف روسي عنيف ومحاولات اقتحام ومصالحات، تليها محاولة جر المعارضة إلى جولة جديدة من المفاوضات، فيضعون السوريين أمام أحد أمرين إما التسليم والقبول بما يقدم لكم وإما القتل.

الغير مقبول هو موقف الفصائل الموقعة على الهدنة، التي لم يتعدى ردها على خروقات روسيا والنظام بضعة تصريحات لا تسمن ولا تغني من جوع، لكنها في حقيقة الأمر ماضية فيما اتفقت عليه مع الأتراك والروس، وليست في وارد الرد على هذه الخروقات، وهو ما يضعها في موقف الضعيف المسير رغما عنه، وهنا يحق لنا أن نتسائل عن مدى قدرة هذه الفصائل على فرض شروط الثورة أو تحقيق ما نصبوا إليه.

بالعودة إلى مؤتمر أستانا، يمكننا القول أن روسيا قد حكمت على مؤتمرها بالفشل حتى قبل أن يبدأ، إذ من الواضح أنها تسعى لفرض تسوية عسكرية معدة مسبقا، وليست في وارد السماح لأي من الأطراف بطرح وجهة نظره أو تقديم تصوره للحل في سورية، وبالتالي فإن النقاشات ستدور حول تفاصيل تطبيق الخطوط العريضة التي حددتها للنظام والمعارضة على حد سواء، وهي كذلك ليست في وارد التخلي عن منظومة الحكم الأسدي بشكلها الحالي، فجهودها ستنصب على لم شمل النظام والمعارضة في جبهة واحدة، مع إمكانية التخلي عن شخص بشار لاحقاً. 

روسيا لبت طلب تركيا الرافض لمشاركة وحدات حماية الشعب الكردية، لكنها وبالمقابل قامت بإستبعاد هيئة المفاوضات عن المشاركة في مؤتمر أستانا، وأبقت على ممثلي الفصائل المسلحة، الأمر الذي يمكن إعتباره مؤشراً هاماً على طبيعة التسوية المقترحة، والتي من المتوقع أنها ستكون تسوية عسكرية تفرز بشكل آلي تسوية سياسية، فما يهم روسيا هو تثبيت ما تحقق لها من إنجازات على الأرض، والإنطلاق بإتجاه فرض وقف إطلاق نار شامل وإن من جانب واحد هو المعارضة، التي يبدو أن قسم كبير منها موافق على الخطة الروسية طوعاً بينما رضخ قسم آخر للضغط التركي، في حين لايزال البعض مترددا كالعادة. 

هيئة المفاوضات رضخت للأمر الواقع وقبلت بعملية استبعادها، فأصدرت بيانا أيدت فيه المؤتمر ووضعت نفسها تحت تصرف الوفد المفاوض، وذلك من خلال بيان هزيل شرعن قصف المناطق السورية الخاضعة لما أسماه البيان مناطق تسيطر عليها "الجماعات الإرهابية" وكرر شروط ومطالب الهيئة إبان أخر جولة من محادثات جنيف والقاضية بتطبيق الفقرات 12, 13, 14 من القرار الأممي 2254 الصادر في العام 2015 والتي تعني بمجملها "الخبز مقابل التسوية" لكنها وبالمقابل إعتبرت مؤتمر أستانا تمهيدا للجولة الجديدة من محادثات جنيف التي أعلن عنها المبعوث الأممي ديميستورا والمقرر إنعقادها بتاريخ الثامن من شهر شباط \\ فبراير من هذا العام.

إيران اعتبرت مشاركتها في أستانا نصراً أثبت من وجهة نظرها فشل محاولات تحييدها عن المشهد السوري، وهي بهذا تبدو كمن حصل على تطمينات بالتخلي عن مطلب خروج القوات الإيرانية والميليشيات الشيعية من سورية، وهذا مؤشر خطير آخر على طبيعة التسوية التي تقترحها روسيا.

روسيا لم توجه بعد دعوة رسمية للولايات المتحدة الأمريكية لحضور المؤتمر، لكنها وجهتها عبر سفيرها في واشنطن "سيرغي كيسيلياك" خلال مكالمة مع مستشار الأمن القومي الأمريكي المقبل "مايكل فلين" وهو ما أثار غضب إدارة أوباما ودفعها لجملة من الإجراءات التي أظهرت مدى إنزعاجها من التجاهل الروسي، فقامت بنشر لواء مدرعات، يضم ثلاثة آلاف و500 جندي، في بولندا، وفرضت عقوبات جديدة على مؤسسات ومسؤولين في نظام الأسد، وأعادت إلى الواجهة مسألة تورط الأخوين بشار وماهر في مجزرة الكيميائي، وفجرت فضيحة ما قيل إنه إحتفاظ الرئيس الروسي بوتين بتسجيلات جنسية شاذة لترامب، إضافة إلى إعادة نبش مسألة الإختراق الروسي لأنظمة الانتخابات الإليكترونية الأمريكية، وهذا بدوره يظهر عمق الصراع الحاصل بين الرئيس المنتخب ترامب ومؤسسات الدولة وذلك على خلفية محاولة ترامب إحداث تغييرات جذرية أشبه ما تكون بإنقلاب على منظومة الحكم الأمريكي.

تركيا أكدت على أهمية المشاركة الأمريكية ودورها في العملية السياسية، لكنها تبدو في حالة توافق تام مع الروس خاصة في مسألة إنتظار تسلم ترامب مهام منصبه كرئيس للولايات المتحدة قبل إنعقاد مؤتمر أستانا بثلاثة أيام، حيث أشار وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو بأن الدعوات ستوجه مطلع الأسبوع المقبل, في حين ردت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا على سؤال لوكالة الصحافة الفرنسية بشأن احتمال مشاركة الولايات المتحدة بالقول: إن "شكل المفاوضات لا يزال في طور النقاش" الأمر الذي يعني أن الدعوة الرسمية لن توجه قبل تسلم ترامب لمهامه كرئيس, مع ملاحظة أن موعد إنعقاد المؤتمر نفسه قابل للتغيير وقد لا يعقد بتاريخ الثالث والعشرون من هذا الشهر. 

روسيا تبدو مرتاحة جداً وهي تحاول إستثمار ما تحقق لها من نجاحات على الأرض وبمساعدة من الأتراك، الذين يرغبون بالخروج من المأزق السوري ووقف الحرب بأي ثمن، هذه الحرب التي بدأ صداها يتردد داخل الأرض التركية من خلال سلسلة العمليات والتفجيرات التي إستهدفتها، وهي في سبيل الوصول لهدفها هذا تحتاج للزج بفصائل المعارضة المسلحة في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية الذي دخلت في مواجهة مباشرة وحقيقية معه في مدينة الباب، حيث لاتزال عملية إقتحام الباب تراوح مكانها وتستنزف الكثير من سمعة ورصيد تركيا لدى السوريين, الأمر الذي دفعها لطلب الدعم الجوي من التحالف الدولي وروسيا، بغية حسم معركة الباب التي جعلتها تتأخر في سباقها مع الأكراد باتجاه الرقة التي لازالت معركتها تراوح مكانها أيضا، لهذا فهي في أمس الحاجة لتفريغ فصائل الجيش الحر وحشدها لعملية درع الفرات. 

يمكننا القول أن المنطقة قد دخلت في دوامة الابتزازات والمقايضات فحلب مقابل الباب ولجم وحدات الحماية الكردية، وسورية ولبنان مقابل اليمن، أما المشاركة في الحرب على ما يسمى الإرهاب فأصبحت تحت مظلة التحالف الدولي الذي فرض دعم العمليات في الموصل والرقة، وبالتالي فإن فصائل المعارضة السورية لم تعد تملك من أمرها شيئاً، وباتت مجبرة على تنفيذ ما يطلب منها، وما نكسة حلب عنا ببعيد.

مصطلح المعارضة السورية مصطلح فضفاض يدخل في إطاره كل من قال أنا ضد نظام الأسد من أفراد وجماعات وهيئات ومؤسسات وإتحادات وفصائل مسلحة لم تستطع ورغم مرور ستة أعوام أن تجد صيغة وطنية تجمعها، وهو ما سمح بتمييع القضية السورية وإستخدام المعارضة بشقيها السياسي والعسكري مطية لفرض وتنفيذ المشاريع المشبوهة وشماعة للتسويف الذي سمح لنظام الأسد بالقتل والتدمير.

صحيح أن عدد الفصائل "الكبرى" الموافقة على حضور اجتماع أستانا قد لا يتجاوز 14 فصيلاً، إلا أن العدد الكلي للفصائل المنخرطة في التسوية "بغثها وسمينها" يتجاوز 35 فصيلا، حيث أعلنت هذه الفصائل عن موافقتها على حضور المؤتمر دون شروط، ضاربة بعرض الحائط كل ما صرحت به حول خرق نظام الأسد للهدنة والتهديد بتجميدها وعدم الذهاب لأستانا، على إثر المحاولات المتكررة لإقتحام وادي بردى الذي لايزال تحت النار، ليس هذا وحسب، بل إن الفصائل ومعها هيئة المفاوضات قبلت بشروط إستثناء مناطق سيطرة التنظيمات المصنفة "إرهابية" كالدولة وفتح الشام من الهدنة، الأمر الذي سيعني إستمرار القتل والتدمير، ولو إستثنينا تنظيم الدولة، فستبقى معضلة تعامل هذه الفصائل مع القصف الذي سيطال مناطق سيطرة فتح الشام المتداخلة في وجودها مع معظم الفصائل، وهنا لا بد من التساؤل حول آهلية ممثلي هذه الفصائل في التفاوض على مصير الشعب السوري.   

لا شك أن مؤتمر أستانا سيشكل نقلة نوعية ونقطة مفصلية في تاريخ سورية والمنطقة خاصة إذا ما خرج بتسوية تبقي على منظومة الحكم الأسدي، وتوسيعها لتضم فصائل أستانا التي سينحصر دورها بعملية قتال تنظيم الدولة وجبهة فتح الشام ورافضي التسوية مع نظام الأسد، وهو ما سيؤدي حتما لإنشقاقات عديدة تعيد رسم خارطة الفصائل المسلحة وتحالفاتها على الأرض، لأن أي تسوية لا تحقق شرط إسقاط منظومة الحكم الأسدي هي تسوية فاشلة ومرفوضة.

إن معارضة مشرذمة يعينها لنا الآخرون، لم تستطع ورغم مشاركتها في كافة جولات المفاوضات أن تطلق سراح الأسرى والمعتقلين ولا حتى فك الحصار عن المدن والبلدات المحاصرة، هي معارضة غير مؤهلة للحديث باسم الشعب السوري، وبالتالي فإن من سلم حلب وغيرها لن يذهب الى أستانا كي يعيد لنا الحقوق ويسقط النظام بل سيذهب مرغما عنه ليسلم ما تبقى من سورية ويوقع صك الإستسلام والعودة لحضن الأسد، ومن يدري فربما يؤدون القسم أمام الأسد الذي قال: " إن أقصى ما يمكن تقديمه للمعارضة هو العفو عنها".      

التعليقات (3)

    القعقاع الشامي

    ·منذ 7 سنوات 3 أشهر
    روسيا وجدت في الذين قبلوا نفوسا مريضة تبحث عن السلطة والمال فجرتهم لكنهم لن يفلحوا وسيلاقون مصير النصيري لأنهم تاجروا بالدماء وباعوا دينهم بعرض من الدنيا

    مهاجر

    ·منذ 7 سنوات 3 أشهر
    تلخيص منطقي وواقعي لحالتنا المزرية اليوم. طالما أننا لسنا على قلب رجل واحد فهذا هو المآل المحتوم. هل لمخترق الهدنة مئات المرات أمام العالم أن يقدم تنازلاً واحداً لمعارضات الاستانة؟ أليس الأحرى أن يحترم الهدنة حتى يكسب جزءً من مصداقية؟ أليست الهرولة وراء سراب في صحارى وقفار آسيا الوسطى سعياً لسلام في سوريا نوعاً من الجنون؟ ألا تخافون من الافتراس في تلكم القفار، فالأسد والدب حيوانان شرسان؟ أقول تباً لتفرقنا بعدد الخطوات لأستانة.

    مهاجر

    ·منذ 7 سنوات 3 أشهر
    تلخيص منطقي وواقعي لحالتنا المزرية اليوم. طالما أننا لسنا على قلب رجل واحد فهذا هو المآل المحتوم. هل لمخترق الهدنة مئات المرات أمام العالم أن يقدم تنازلاً واحداً لمعارضات الاستانة؟ أليس الأحرى أن يحترم الهدنة حتى يكسب جزءً من مصداقية؟ أليست الهرولة وراء سراب في صحارى وقفار آسيا الوسطى سعياً لسلام في سوريا نوعاً من الجنون؟ ألا تخافون من الافتراس في تلكم القفار، فالأسد والدب حيوانان شرسان؟ أقول تباً لتفرقنا بعدد الخطوات لأستانة.
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات