رسائل سرية من دمشق المحتلة!

رسائل سرية من دمشق المحتلة!
تبدو دمشق اليوم مدينة محتلة بكامل مواصفات وأركان الاحتلال. ما يخرج منها من أخبار وصور لا يعبر عن واقعها، وما تعانيه كمدينة عريقة مازال يسكنها ملايين البشر، وتتواجد فيها كل أجهزة النظام الأمنية والعسكرية مع مليشيات الاحتلال الأخرى لا ينعكس فيما يكتب عنها، إلا عبر تحليلات خارجية لأناس لا يمكن أن يقولوا حقيقة ما يجري ما لم يغادروها. 

في حوار خاص جمعني مع سيدة دمشقية تهتم بالشأن العام، جرى عبر وسائل الاتصال غير مراقبة، سألتها عن أجواء المدينة بعد قصف النظام لنبع عين الفيجة الذي يغذي دمشق بماء  الشرب تاريخياً. سألتها إن كان الناس قد صدقوا أن "المسلحين" الذين يسيطرون على قرية عين الفيجة بوادي بردى، هم من قصفوا النبع الذي كان ورقة رابحة بيدهم، فقالت لي: 

" واضحة القصة.. حتى خطة الطوارئ وصهاريج المي بتفهمك مليح مين اللي ضرب النبع. إنها عملية ضغط على سكان الشام ليحقدوا على  الثورة والمعارضة " .

سألتها ماذا يقول إعلام النظام عن الموضوع للناس في الداخل فأجابتني: 

"هم يقولون أن المسلحين فجروها. لكن حتى "الحمار ابو دنب" - والتعبير لها وليس لي - يعرف جيداً أن أول المتضررين هم أهل وادي بردى. هل يُعقل أن تقوم بقصف منشأة من مصلحتك – حتى كخارج عن سلطة النظام – أن تحافظ عليها".

سألتها إن كان هناك من يصدق هذه الرواية فقالت لي مستدركة: 

" للأسف فيه حمير كتير مصدقين. وفيه كتير مو مصدقين طبعاً.  بدك تقول خمس سنين ما تغير شي المؤيد مؤيد.. والثورة ثورة. كل ما يحدث لا يزحزح قناعة أي طرف " وأضافت: 

" هنا لا أحد يتحدث عن الهدنة ولا أحد يتذكرها.  كل قص الحرب والضرب لم تعد تهم أحداً. فالكل مشغول بالماء وكيف سينظفون الحمامات. وقصص الصهاريج التي باتت تبيع الماء في ظاهرة لم تعرفها دمشق ابدا. هل تصدق أن الصهاريج القادمة من الريف ليس مسموحاً أن تدخل المدينة كي تبيع الماء. يعني بقطع المي صارت الحياة بالشام مع الغلا والحواجز وقطع الكهرباء صارت جحيماً نظامياً. شو بدي قلك الناس لم تعد تهتم  لا بالمازوت ولا  بالغاز ولا حتى الحواجز التي تقطع أوصال المدينة.. ما عاد همها غير انقطاع الماء".

سألتها عن الإجراءات التي اتخذها النظام في ظل هذا الوضع... وما إذا كان يدرك حجم المشكلة التي يعاني منها السكان، ومنهم مؤيدين وشبيحة له، وكثير من أبناء طائفته، فقالت لي بلغة تعكس لامبالاة النظام الحقيقية: 

"طابور الناس التي تقف على أبواب مصلحة الإطفاء لتعبي غالونا من الماء في هذا الشتاء القارس تدفع البعض للبكاء لكن هذا لا يثير أي حرج لدى أي مسؤول من النظام. أما خطة الطوارئ  التي يتبعها النظام فكل يوم يضع جدولا، يوصل الماء بموجبه لمنطقة لمدة ساعتين فقط، وخلال هاتين الساعتين يجب أن تنجز كل شيء: جلي وغسيل وحمام وتعباية الخزان والاواني... كل ما لديك من أوانٍ. أما الصهاريج فهي لناس وناس. عند الحاجز يجب أن  تدفع رشاوي لعناصر الحاجز كي يسمحوا  لسائق الصهريج أن يمر. ورغم ذلك  لا يسمح إلا إذا كان معه واسطة أو رايح لجهة واسطة، أو منطقة ملأى بالشبيحة من لون معين. صار عطش الناس تجارة بالنسبة للنظام وحواجزه. لا أتصور أن إسرائيل فعلت هكذا مع الفلسطينيين" .

تفتح هذه العبارة الأخيرة، سجلاً من الصور في تأمل صورة النظام وسلوكه. أتذكر أنني أول مرة سمعت مثل هذه العبارة في نيسان / إبريل من عام 2011، كانت سيدة عجوز من قرية (البيضا) في بانياس، الذين جُمع رجال وشبانها في ساحة القرية، وديسوا بأرجل عناصر الشبيحة والأمن في الفيديو الذي شكل صدمة أولى للسوريين في بداية الثورة، تقول لكاميرا أحد الناشطين، بعد أن اقتحمت قطعان الشبيحة القرية وكسروا البيوت ونكلوا بأهلها: " إسرائيل لم تفعل ما فعلوه " ثم كانت المرارة الأشد، حين خرجت هذه العبارة من فم عجوز في مخيم اليرموك الذي حاصرته قوات النظام ومنعت عن أهله الطعام والغذاء: "والله جوعان... خدونا ع إسرائيل... إسرائيل أرحم".

لا يهدف هؤلاء الناس البسطاء إلى امتداح إسرائيل أو جعلها معياراً للقياس في حسن السلوك، بل هي بالنسبة لهم أمثولة لقياس السوء وفق ثقافة العداء الطويلة معها. لكن حتى في كونها مقياساً ما للسوء فإن النظام يتفوق عليها، تفوقاً لا يمكن مقارنته بأي درجة من درجات الوطنية. فإذا كان النظام قد توعد المناطق الخارجة عن سيطرته بعد أن عجز عن استعادتها بـ "الجوع أو الركوع" محكماً قبضة الحصار عليها، ومانعاً الغذاء والدواء والوقود والكهرباء من الدخول إليها... فإنه في حالة حرب المياه التي يخوضها ويفتعلها في دمشق، يطلب من سكان دمشق الخاضعة لسيطرته وسيطرة حلفائه: "الجوع والعطش والركوع" معاً.. وهو يميز مناطق الشبيحة ومستوطناتهم بتسهيلات لا حصر لها في إدخال صهاريج المياه، أو أوقات التقنين، ليحقق معنى التمييز الطائفي الذي طالما ارتكز عليه لتثبيت حكمه.. ثم للتشبث بكرسي الحكم حين بدأت تهتز أرجله تحته في سنوات الثورة.  

فهولاء من سيعطشون، ومن سيجدون أزمة كبرى تهدد مختلف جوانب حياتهم، بدءا من الشرب إلى التنظيف إلى الاستحمام، هم في قاموسه الطائفي الضيق ليسوا مواطنيه، حتى وإن كان يعيشون تحت حكمه، ويلونون أبواب محلاتهم وجدران أسواقهم وشرفات بيوتهم بألوان علَمه. إنهم ليسوا أكثر من رهائن يمكن ابتزازهم، ويمكن تجويعهم، ويمكن تدمير مواردهم المائية متى اقتضت الحاجة، كما كانوا منذ استولى حافظ الأسد على السلطة في انقلابه الأسود عام 1970، بل منذ نفذ صلاح جديد انقلابه الطائفي الأول في الثالث والعشرين من شباط عام 1966. 

ليست أزمة المياه التي تعيشها دمشق، بأسوأ حالا من الكوارث والأزمات الأخرى التي حلت بالشعب السوري منذ أن خرج يطالب بالحرية، وهي ليست مدعاة للشماتة ولا للشفقة أيضاً. فدمشق اليوم تدفع – كما كل مدن سورية – ضريبة حرية مشتهاة، قرر العالم بدوله المتحضرة والمتخلفة معاً، وبمؤسسات الشرعية الدولية المتواطئة، أن يجعل منها درساً عقابياً لشعوب أخرى، كي لا تفكر بالكرامة والحرية لأنهما مفتاح كل استقلال وكل نماء، وكل خروج على مخططات وأطماع، طالما جعلت سورية وطنا وشعبا بلا كرامة، تحت بسطار نظام طائفي استبدادي يبيع ويشتري لوحده. 

لن تغير أزمة المياه من واقع دمشق تحت الاحتلال، فهذا الواقع الذي يزداد سوءاً بات جزءاً من حالة عامة تشترك فيها مدن سورية أخرى تنتظر حلا لم يعد بيد الثوار لوحدهم ولا النظام لوحده... لكنه يقدم برهاناً جديداً على أكذوبة الموالاة والمعارضة في بنية النظام وتفكيره... برهاناً لا يرعى فيه النظام أي حقٍ لموالٍ صامت أو منافق، ولا يعترف حتى بواجبه تجاه تأمين أبسط مقومات الحياة لمن يعيشون تحت حكمه. فالرابط الذي يشكّل بنية النظام الصلبة داخل دمشق أو داخل أجهزة النظام في أي مدينة أخرى.. هو رابط طائفي محض يرى المعركة معركة فناء أو بقاء... وفي سبيل هذا البقاء يمكن أن تموت عطشاً في قلب العاصمة التي يحكمها النظام، لأن هذا النظام يدرك تماماً طبيعة الكراهية المستترة التي تكنها له، ويأمل أنه في حال سقوطه، لن تتمكن من أن تهنأ حتى بكأس ماء من عين الفيجة يصل إليك عبر صنبور بيتك! 

التعليقات (1)

    د. أميمة أحمد

    ·منذ 7 سنوات شهرين
    برميل الماء ثمنه 15000 ليرة سورية ، وماء معدنية ستة قناني سعرها 1200 ليرة سورية بناية يسكن فيها واحد من بيت شاليش، أمر أصحاب الصهاريج يعبي خزان البناية من جهة شقته ، بينما الجهة الأخرى للبناية بقيت بلا ماء. معلومات من أصدقاء في دمشق ، حيث الارتفاع الفاحش للأسعار ، فلتان أمني الحبل على الغارب ، تشليح ظهر الحمرا .....أيعق تسبى دمشق أقدم مدينة في التاريخ على أيدي أناس التتار والمغول أكثر رأفة بدمشق من هؤلاء الفجرة السفاحين
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات