ترامب الشعارات الشعبويّة والواقع السياسي

ترامب الشعارات الشعبويّة والواقع السياسي
يتم تشبيه التوجّهات السياسيّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة بحركة بندول الساعة الّذي يتحرّك من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار كرد فعل آلي ويعتبرون ذلك مؤشّرا على حالة عدم النضوج في الحياة السياسيّة في هذه الدولة العظمى، ونتيجة لذلك يعتقد كثيرون أنّ ظاهرة ترامب رجل الأعمال المليونير الأبيض ذو الثقافة العامّة المتواضعة، وطريقة تعبيره الشعبيّة ومفرداته السوقيّة ليست سوى ردّة فعل بشكل ما على باراك أوباما الشاب المثقّف والرئيس الأوّل للولايات المتّحدة الّذي ينحدر من أصول إفريقيّة وصاحب اللسان الطلق والموهوب بارتجال الخطابات والكلام المنمّق . 

مع انتهاء سنوات أوباما في البيت الأبيض كثرت الأصوات الّتي اعتبرت أنّ إختياره لرئاسة الولايات المتّحدة لم يكن موفّقاً، حتّى أنّ هناك من يقول أنّ حماس أوباما بالترويج للمرشّحة الديموقراطيّة هيلاري كلينتون قد لعب دورا في خسارتها للإنتخابات، لأنّه لم يكسبها المزيد من أصوات الأميركيين ذوي الأصول الإفريقية وخسّرها بالمقابل أصوات البيض المتردّدين والحائرين لأنّهم إعتبروها تمثّل إستمراراً لسياسته، ولا يجب تجاهل الحركة الواسعة الّتي إنتشرت من شمال الولايات المتحدة لجنوبها والّتي كان عنوانها "أنتي أوباما" وهم المتحمّسون للتخلّص من كل ما يمثّله أوباما بسبب الإنطباع السيّئ الّذي تركه لديهم . 

الرئيس الجديد للولايات المتّحدة والّذي وجدت فيه نسبة كبيرة من الأمريكيّين أفضل تعبير عن "آنتي أوباما" أوالمضاد لأوباما، طرح خلال حملته الإنتخابيّة العديد من الشعارات الّتي تمثّل بنظر المواطن الأميركي عكس ما يقوله أوباما تماما : إذا دعم أوباما التأمين الصحّي فترامب يعارضه وكذلك حال الإتّفاق النووي أوالعلاقات مع روسيا ...وهكذا ، ممّا جعله يتجاوز كل منافسيه واحداً تلوالآخر وآخرهم كانت هيلاري كلينتون صاحبة الخبرة الواسعة بكل حيثيات السياسة الأميركية، الداخليّة والخارجيّة.

أحد الشعارات التي رفعها ترامب خلال حملته: التودّد إلى بوتين، وتركيزه على أنّ الأولويّة هي للقضاء على داعش وموضوع الأسد ليس ملحّا الآن، كما أنّ الديكتاتوريّات قد تكون أقل ضررا من الفوضى ، ولكنّه تحدّث عن أهميّة إيجاد مناطق آمنة داخل سوريا لإستيعاب اللاجئين السوريّين، وبنفس الوقت يعارض بشدّة طريقة تعامل أوباما الضعيفة مع النظام الإيراني ووعد بإلغاء الإتّفاق النووي من اليوم الأوّل كما تحدّث عن وضع حدّ للسلوك الإيراني في كامل المنطقة، ولديه موقف مسبق معارض لكل حركات الإسلام السياسي السنّي والشيعي، كما وعد بتقييد دخول المسلمين لأميركا وإيقاف برنامج أوباما لقبول اللاجئين السوريين . 

نلاحظ خلال استعراض هذه الشعارات سذاجتها وتناقضها مع بعضها أحياناً، إلا أنّ هناك قاسما مشتركا بينها هوما يظنّه ترامب والمواطن الأمريكي أنّها تمثّل سياسة معاكسة تماما لسياسة أوباما. لنبدأ من النقطة الأخيرة حول اللاجئين السوريين فبرنامج أوباما يتحدّث عن قبول عشرة آلاف لاجئ سوري حتى نهاية عام 2016 ! نلاحظ أوّلا هزالة الرقم وخاصّة إذا تذكرّنا أنّ ألمانيا، وهي أصغر 28 مرّة من الولايات المتحدة في مساحتها، قد إستقبلت خلال نفس الفترة مليون لاجئ، نسبة كبيرة منهم من السوريّين، وفوق ذلك فإنّ قسم من هؤلاء "العشرة آلاف" كان قد تم إحتسابهم من السوريّين المتقدّمين سابقا للحصول على الغرين كارت وتمّ قبولهم ضمن نفس برنامج اللجوء ! وطرق أخرى للتلاعب بالأرقام بحيث أنّ المستفيدين من هذا البرنامج بالنهاية رقم أقلّ بكثير من رقم العشرة آلاف الضئيل بالأساس ، ولا يشبه برنامج أوباما لقبول اللاجئين السوريّين سوى برنامج أوباما الوهمي لتدريب المعارضة المعتدلة بخمسمئة مليون دولار !! ، مشاريع متعدّدة لعدّة سنوات على الورق وعبر وسائل الإعلام ولا يقابلها شيئ على أرض الواقع ، هذه عيّنة من البرامج الّتي يريد ترامب إلغاءها والّتي كان يجب على السوريّين المطالبة بإلغائها قبل ترامب لأنّها برامج خادعة غير حقيقيّة وحتّى خبيثة هدفها تخدير الرأي العام وامتصاص الموقف الإقليمي والدولي . 

أمّا من ناحية التهديد بترحيل أوعدم قبول المسلمين أوالمكسيكان أوغيرهم كما قال ترامب خلال حملته الإنتخابيّة ، فعندما تمّ الإعلان عن فوز ترامب تمّ تشكيل شبكة من الناشطين والمحامين وأعضاء الكونغرس والإعلاميّين المعارضين لطروحات ترامب للتبليغ عن أي تصرّف أوإجراء تقوم به أي جهة حكوميّة أوغيرها من هذا القبيل ليتمّ فضحها والتصدّي لها قانونيّا وإعلاميّا وشعبيّا فهذه المواضيع ليست بهذه السهولة كما يظنّ البعض وتطبيقها على أرض الواقع يختلف عن طرحها في خطاب إنتخابي وإمكانيّة تنفيذها مستبعدة جدّا . 

أمّا من ناحية التوجّهات السياسيّة تجاه الموضوع السوري وروسيا وإيران، فقد أجاب ترامب في بداية حملته الإنتخابيّة عندما واجهه الصحفيّون بحقيقة تواضع خبرته ومعلوماته عن السياسة الدوليّة بأنّه سيستعين بأهمّ المستشارين والمساعدين والخبراء ليصل للسياسة المناسبة لمصلحة الولايات المتّحدة، ودونالد ترامب كما نعرف هومرشّح الحزب الجمهوري ومن بين أقرب المحيطين به إبتداءا من نائب الرئيس مايك بنس إلى بقيّة طاقمه ليسوا سوى ممثّلين ليمين الحزب الجمهوري وبينهم حتّى من كان من المحافظين الجدد مثل جون بولتون مندوب الولايات المتحدة في الأمم المتّحدة خلال عهد جورج بوش الإبن، هؤلاء الأشخاص المحيطين بدونالد ترامب هم من سيكون لهم دور أساسي في رسم وتوجيه سياساته الخارجيّة ، وحتّى خلال الحملة الإنتخابيّة كان ما يقوله ترامب عن بوتين مثلا يتناقض تماما عن ما يقوله نائبه بنس وكان الإعلام يسخر من ذلك ويطالبهم بالتنسيق فيما بينهم قبل إعطاء التصريحات، سيكون دور المستشارين المحيطين بترامب -رجل الأعمال صاحب الخبرة المتواضعة في العلاقات الدوليّة وصاحب الأفكار التبسيطيّة الساذجة -أكبر من دور المستشارين المحيطين برئيس إيديولوجي مثل أوباما ، سيكون دورهم أقرب لدور مستشاري جورج بوش الإبن "ديك تشيني ودونالد رامسفيلد" أورونالد ريغان "جورج بوش الأب"، الحاسم، ولذلك يجب التركيز على محاولة فهم مواقف هؤلاء لتوقّع سياسات الإدارة المقبلة . 

كما يجب أن لا ننسى دور ومواقف القوى الدوليّة والإقليميّة، ففي أوّل اتّصال أجراه الرئيس الفرنسي مع ترامب طالبه بالوضوح التام حول سوريا وأوكرانيا فموقف الدول الأوروبيّة الرئيسيّة جميعها واضح من هذه المواضيع وهي ضدّ التدخّل والبلطجة الروسيّة ولا تقبل ببقاء نظام الأسد مع جرائمه الموثّقة، كما أنّها تطالب الولايات المتّحدة بإتّخاذ مواقف أكثر حزما في القضايا الدوليّة، كما كانت هذه الدول  أيضا في خلافٍٍ مع أوباما نتيجة ما يرونه تواطؤاً منه مع الروس والإيرانيّين، وكان أوباما يحاول خديعتهم بإتّباع سياسة مزدوجة تصريحات إعلاميّة في جهة وسلوك وممارسات حقيقيّة بجهة معاكسة تماماً، ولهذا فإنّ طلب هولاند من ترامب الوضوح ليس سوى تعبير عن الإستياء من "غموض" مواقف أوباما المشكوك في دوافعها وأهدافها ، وكذلك هناك موقف تركيّا ودول الخليج والّتي لا تستطيع تقبّل فكرة إنتصار المحور الإيراني الشيعي في المنطقة. 

ونتيجة لمجموع هذه العوامل فإنّه لدينا بعض الأسباب لتوقّع سياسة مختلفة وأكثر فعّالية في المنطقة والعالم لهذه الإدارة الأمريكيّة الجديدة عن سياسة أوباما، كما أن سياسات الإدارة الجديدة لن تكون متطابقة تماماً مع شعارات حملتها الإنتخابيّة ذات الأهداف الشعبويّة ، وفي جميع الأحوال ليس لدى السوريّين ما يخسرونه على الإطلاق برحيل أوباما . 

هناك ناحية مؤكّدة وهي أنّ شعوراً من الحذر والخوف يسيطر على كل الدول الّتي إستفادت من فترة رئاسة أوباما كإيران وكوريا الشمالية إلى روسيا نفسها، فالجميع يرى أنّ عنتريّات بوتين وتطاول خامنئي وعملائه في المنطقة قد إنتهت أيّامها مع نهاية أيّام أوباما في البيت الأبيض، والّذي حطّم بأدائه الضعيف هيبة الولايات المتّحدة الأمريكيّة في العالم، ومن المستبعد أن يختبر أيّ شخص من هؤلاء صبر الإدارة الجديدة  وهذا ما نستطيع تلمّسه من اليوم في التصريحات الصادرة من طهران وموسكورغم أنّ هناك شهرين قبل أن يصل الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض .

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات