كل ذلك صحيح لكن لا مانع من التعاطي اليوم مع واقع نرى فيه كل ما كان يدور بين السوريين وغيرهم بسذاجة قبل أربعة أعوام عن سعي الأسد وخلفه إيران لإنشاء كيان أسسه الأسد الأب يمتد من حمص إلى جنوب دمشق يضم خليطا سكانيا فاقدا للهوية الجامعة يحكمه "العلويون" نراه ينفذ وبإرادة دولية (عن حسن نية من البعض وسوء نية من أخرين) لكن كيف لدمشق التي صمدت قرونا أن تتغير الآن.. هل هذه نهاية المطاف؟
ليست نهاية المطاف ولابد من عودة للهوية والأصل لكن قد لا نعايش نحن ولانرى هذه العودة، ذلك لأن المخطط يسير بنجاح إلى الآن ومذ أفرغت حمص من أهلها ونحن نشهد لعنة الباصات الخضر تلاحق هذا الركن من بلادنا وتبدو خرائط التقسيم التي وضعت في بداية الثورة قريبة من التطبيق على الأرض، ومع هذه المعطيات يصبح تهجير أهالي داريا وسكانها الأصليين كسرا للثورة بالعموم فضلا عن أنه كسر لثورة داريا لأن خروج المدينة من ذاكرتنا الأنية يعني فقدان رمزية الصمود والتحدي التي عايشناها خمس سنوات ومررنا معها بكل أنواع البطولة والفداء والصمود والإيثار وطبعا الخذلان، فليس عاديا أن تمر الأخبار من اليوم فصاعدا دون خبر عن داريا، كما سبق وحصل لحمص والقصير وغيرها من المدن الرمزية، لكن هل يحق لنا أن نضع ذلك كله في إطار التغيير الممنهج للهوية والطابع؟ أقول بحزم نعم، نعم وأنا أعايش إصرار من فاوض من طرف الأسد على تحديد مدينة إدلب البعيدة عن مشروع التطهير كخيار لكل المغادرين كانت في السابق الزبداني واليوم داريا وقبلهما حمص.
الجديد أن هذه المرة طلب ثوار داريا وأهلها الذهاب لحوران لكن النظام رفض وكأنه فضلا عن ترسيخ مشروع التطهير، يرسل لأهالي درعا وقادة فصائل الثوار فيها أن وضعكم الحالي مناسب، يرضيكم ويرضيه فلا داعي لإحداث أي تغيير وهو العالم أن مصدر الإزعاج الجنوبي متوقف اليوم تماما بإرادة مشتركة بين الخارج والداخل، كما استذكر أن مثل هذه الأيام قبل عام بالضبط بدأت جرافات الأسد بتجريف بساتين المزة في دمشق، وكان نظامه قد أخرج ملاك هذه البساتين من بيوتهم ومن أراضيهم بعد إنذارات بالإخلاء نفذت على عجل وعوض الأهالي بـ360 ألف ليرة سورية فقط (أقل من ألف دولار) عن كل عقار وهذه العقارات ملك "طابو" وعهدت الأراضي لشركات إيرانية لتعميرها وإدخالها فيما عرف بالمخطط التنظيمي الجديد لدمشق، وتركت كل الأحياء العشوائية التي لا يملك سكانها "العلويون" بمعظمهم أي عقار نظامي فيها خارج هذه الحملة التنظيمة "العنصرية" فالبساتين ليست ببعيدة عن المزة 86 مثلا وليست أسوأ حالا وتنظيما من عش الورور وغيرها من المستعمرات التي أذن بظهورها حافظ الأسد واستمرت إلى أن أصبحت على ماهي عليه الأن، وكما قبل عام اليوم يتكرر الفعل ذاته لكن في منطقة أبعد قليلا هي داريا لكن بعد القصف بــ 10 ألاف برميل متفجر وبكل أنواع الصواريخ والقذائف والنابالم الحارق وبعد الحصار والتجويع، والهدف من كل ذلك ما كان في حمص وريفها ودمشق وريفها هو إفراغ طوق العاصمة من الثقل السني الذي كان عائقا أمام الأسد وهذا لا يعني أن استبدال سكان المدن المهجرة سيتم غدا بأقوام أخرين، لكنه يعني أن المرحلة الأولى والأهم وهي الإفراغ قد تمت فلا هَم كيف يملأ الفراغ، حتى وإن أعيدت كأرض زارعية المهم أن لا مزيد من السنة في الطوق ومع أي تسوية قادمة سيكون هذا واقعا يفرض على الطاولات ويؤخذ بعين الاعتبار. والأهم من كل ذلك أن الباصات الخضر بعد أن أفرغت مدنا هاهي اليوم تقترب أيضا من حي الوعر، ويبدو أن الدوائر تدور عليه لأنه الناجي الوحيد من مجزرة احتلال حمص، واخشى أن تحول الجهد العسكري للأسد إلى الغوطة الشرقية قد ينتج تسويات مشابهة خاصة مع الفرقة والتحارب بين الأخوة وهدوء جبهة حوران والقنيطرة.
أعي تماما حجم المصاب بتهجير سكان داريا برعاية أممية وثناء دولي، وأعي خطورة الموقف فيما لو نجح الأسد من إفراغ محيط دمشق من أهله لكنه وقع ودارت بعده تحليلات وانطلقت اتهامات وتنظريات أهمها هذا الجلد القاسي للذات جلد يدفعنا للخوض في ثورية ووطنية من بدأ الكفاح المسلح في المدن بحجة أنه كان عليه أن يحسب قبل أعوام حساب الباص الأخضر! لا يبدو الأمر منطقيا للبعض ويرحب به أخر، وكأنه كان خيارا من مجموعة خيارات وكأن غياث مطر لم يقتل وبيده وردة وكأن مخطط الأسد بإفراغ العاصمة ومحيطها واستعمارها جديد عمره ثلاث أو أربع سنوات، إنه لعمرك قديما قدم حكم الأسد "العلوي" لعاصمة الأمويين.
التعليقات (5)