بيانات "طوشة عرب"

لدي اعتقاد راسخ أن التاريخ سيتم تزويره وسيكتبه المنتصر، ولكن يبقى لبعض التفاصيل الصحيحة متسع، وسيرد في التاريخ السوري الجملة التالية: "واشتهرت المعارضة السورية زمن الثورة بكتابة البيانات، وجمع التواقيع، ومن ثم رمي تلك التواقيع والبيانات في أقرب سلة مهملات بعد أن تؤدي مهمتها الترويجية لأشخاص أو تجمعات، وتشترك تلك البيانات بأنها لم تحمل أي جديد، ولم يتطور أي بيان عن البيان الذي سبقه، وتكررت أسماء الموقعين، وأثبتت أن للغة العربية الجذلة أهمية كبيرة في تدبيج العرائض والمطالب والشعارات"، وباختصار فإن ما يحدث لا يمكن  توصيفه إلا بـ "هوشة عرب"، هي حرب، حرب البيانات ابتكرناها ووجدنا أنفسنا مسجونين داخلها.

قبل أيام أصدر مجموعة من المثقفين بياناً جديداً، وبلغ عدد الموقعين على هذا البيان بضع مئات، وتحتوي قائمة الموقعين تلك بعض الأسماء المعروفة سورياً، وأخرى معروفة بتوقيعها على كل البيانات.

البيان الذي وصفه وليد البني بأنه "يركز على القواسم المشتركة لجميع الوطنيين السوريين المؤمنين بنهائية الوطن السوري وضرورة استعادة وحدة سوريا الجغرافية والاجتماعية في دولة مواطنة ديمقراطية ودستور حيادي يساوي بين جميع السوريين دون أي تمييز"، افتتح كما افتتحت كل البيانات التي سبقته، افتتح معارك فيسبوكية، ومعارك بالسلاح الأبيض الذي يبدأ بالتخوين ولا ينتهي بالشتم.

اتُهم البيان بأنه يساوي بين الجلاد والضحية، وبأنه لا يحمل لوناً ولا طعماً ولا رائحة، أصفراً بلا هدف ولا موقف، ودافع الموقعون بأن الوضع السوري اليوم يحتاج إلى رؤية عقلانية تحاول إيجاد الحل لوقف الدم.

توجه البيان "كعادة معظم بيانات المثقفين السوريين" إلى المجتمع الدولي، وطالب بـ"وقف عاجل لهذه الحرب والبدء بعمل جدي لإنجاز حل سياسي يجنب سوريا وشعبها المزيد من الموت"، وتبدو الكلمات التي انتقاها البيان غائمة، فلم يحدد البيان النظام السوري كقاتل أساسي للسوريين والمتسبب الأول بالدمار والمجازر، كما أنه اكتشف "أي البيان" متأخراً أن ثمة مئات آلاف الضحايا من المدنيين والعسكريين السوريين في سوريا، وكأن الموقعين على البيان كانوا في سبات خمس سنوات، أو كأنهم يعيشون في أوهام أن تكترث أي دولة لبيان حيادي.

وعلى اعتبار أن روسيا وإيران والتحالف والقوات الكردية وداعش لا يمكن احتسابهم إلا على النظام بناء على وقائع كثيرة من غير الممكن سردها الآن، كم يبدو ساذجاً الآن الحديث بلغة محايدة بعد ان ظهرت النوايا الروسية بتهجير أهالي حلب، ومما لا شك فيه أن توقيت البيان بعد فك حصار حلب يحمل الكثير من إشارات الاستفهام.

يختم البيان بالمطالبة بفك الحصار عن جميع " المناطق المحاصرة وتأمين ممرات آمنة للمساعدات والأشخاص بإشراف الأمم المتحدة وتحت رقابتها"، وكأن البيان جاء من المريخ، ولكأن الموقعون لم يسمعوا بأعداد موتى الجوع ونقص الدواء في سوريا بالمناطق التي يحاصرها النظام.

عن أي "جميع المناطق" يتكلم البيان ألم يسمع موقعوه بأن مساعدات الأمم المتحدة لاتدخل إلا إلى مناطق النظام التي من المفترض أنها محاصرة بحسب دعاوى النظام، بينما المناطق التي يحاصرها النظام لا يدخلها إلا أنواع معينة يتحكم بها وبكميتها النظام فحليب الأطفال ممنوع والدواء كذلك عدا عن الأساسيات، والكميات التي تدخل لا تكاد تكفي أياما.ً

"طوشة عرب"، بيانات عشوائية افقدت كل معنى لمفهوم البيان، جمل طنانة رنانة يتم تدبيجها والتوقيع عليها، وعواطف مجانية تتلاعب بكلمات البيانات، ولابأس من بعض الشعارات التي لا تفك حصار ولا تمنع إجرام الأسد وميليشياته وحلفائه، وما بين شاجب ومتعاطف وموافق وحيادي، تبدأ "الطوشة" وتنتهي دون أن تترك أي أثر لا هي ولا البيان موضع "الطوشة".