"هنا لن يسمع صوتكم الله" جحيم اللواء 38

"هنا لن يسمع صوتكم الله" جحيم اللواء 38

كل من كان في الشارع في ذاك اليوم كان عرضة للإعتقال ، فقد تم تجميعنا بالعشرات مثل قطعان ماشية في باحة المدرسة وسط القرية ، أحاطوا بنا بكامل استعدادهم الحربي مرتدين بذاتهم العسكرية المموهة ، عيوننا على حائط المدرسة بناء على أوامرهم ،و أيادينا المرتجفة فوق النواصي ، أما هم كانوا يتبرموا حولنا مكررين اسائاتهم النابية والقاسية .

ما كان يؤلمني أنني كنت اعتقدهم إخوة لنا ، عاشوا بيننا وارتدوا ثيابنا طوال تلك العقود ، وعندما تكشفت حقيقتهم خانوا اخوّتنا ، فأكلوا لحمنا وشربوا بكؤوسهم الطويلة والمتقادحة دمنا ، فهم موزعون بين الأنانية ومحبة السلطة ، ادركت وقتها أن بامكانهم ان يعيشوا بدوننا ، وان يحيوا ويبنوا على عظامنا أمجادهم المكسرة في هذا الوطن وبدوننا. فقط لأجل السلطة.

فأنا لن أنسى ذاك اليوم ، ولن أنسى "علي" ، شابٌ هادئ وحالم عرفته دوماً كذلك ، كان أضعف من ان يدافع عن نفسه أمام اضعف ما خلق الله ، فقد فَقَدَ لحظتها توازنه وأخذ يرتجف و يتمتم مناجياً ربه طالباً منه العون من شرهم .

لم يكن يعلم أن الضابط بقربه يسمع نجواه ويستشعر خوفه ، وأن يتوقع أن حديثه مع ربه سيكون جنايته ، ليسحبه بعدها من ياقة قميصه ويأمر جنوده بضربه وسط الباحة ، كانت سائر العامة في الجنوب السوري تعرف ذاك الضابط المدعو "سلّوم" إبن الطائفة الشقيقة ، أو تناهت إليها أخباره ، فقد ذبّح الكثير من ابنائها باسم الوطن وبمسمى المؤامرة ، و "علي" كان احدهم .

مثل الضباع اقتادوه يتناهشوا جسده الرقيق ، حاول ابوه وهو رجل أعمى طاعن في السن تخليصه من يديهم ، لكن لم تكن لشفاعته تلك فائدة ، لم تمضِ دقائق حتى تكسرت اضلاع صدره وفارق الحياة ببساطة.

اذكر جيداً ملامح ذاك الجندي وتقاسيمه القاسية ، كما أذكر كيف وضع كعب رجله على صدره قائلاً وهو يعضّ على مخارج حروفه بحقد "وين ربك بيحميك".

ثم ببرودة متناهية جعل يصفّر لحناً لأغنية باردة "نحنا رجالك يا بشار" هي كل هذه الخيبة في هذا العالم  ، ثم يرجع بين حين وحين ليكرر بصوت عالٍ "وين ربك بيحميك".

كان الله حولنا ، كنت أنا على الأقل أشعر بذلك ، وقلت في نفسي هناك معجزة ستقع قطعاً ، و سينتقم الله منهم ، لأن المعجزات تحل على الأمم الظالمة لتستنصر المستضعفين ، لكن انتظرتها ولم تأتِ ، وبلحظة يأس أحسست أن الله تخلى عنا.

حلّ بعدها صمت مخيف ، فقد قالوا وفعلوا كل شيء في جعبتهم ، وحدثتني نفسي أنه لن يكون هناك عذاب أكثر من ذلك ، فلن يفعلوا أكثر من ذلك ، لكني كنت مخطئ ، فلديهم الكثير ليفعلوه ، لأني ما دريت أن مخزون عذابهم هو بحجم مخزون حقدهم .

فقبل أن يطمشو عيوننا بلباسنا ، كتب احدهم على جدار المدرسة قبل ان يفرغونا منها عبارة " السد أو لحد" أي كان يقصد "الأسد أو لا أحد" لكن خانته أميّته ، ادركت وقتها أنهم قالوا كل شيء في جعبتهم حقاً ، وادركت أني ومثلي الملايين ممن كانت جنايتهم انهم تظاهروا يوم الجمعة ضد السلطة (أننا في منظورهم لا أحد) ، لا شيء ، مجرد كتلة لحم سيتم فرمها . وأنهم صاغوا دستوراً جديداً لأميتهم ولبطشهم على الجدران.

اقتادونا بعدها الى قيادة اللواء  38 في درعا وهناك تضائل عددنا الى اثنان وأربعون شخصاً بعد أن سقط الباقي وعددهم تسعة صرعى ميتين على الطريق. اعرفهم كلهم وبالاسم ، فكلهم رفاقي في المدرسه والشارع والقرية .

أما نحن الاحياء فقد ساقونا مكبلين ومطمشين في رتل طويل ، كان أطول الطرق واتعبها التي قطعتها في حياتي  ، حتى وصلنا معتقلنا ، وهي غرفه صغيرة مربعة شاحبة وعديمة الشخصية . وجدنا في الغرفة عشرون سجيناً مدنياً ينتظرنا ، وقد تحللت اجسادهم وهم احياء ، كان الكل في نجواه يدعو الله النجاه ، وكأن ذاك الجندي الذي كان يقودنا الى مقرنا الأخير يسمع نجوانا فأخذ يردد بصوتٍ عالٍ "هنا لن يسمع صوتكم الله" كانت اقسى العبارات لاقسى الايام التي عرفتها في حياتي.

بعد التحقيق والضرب والتشبيح تكشّفت تهمتي ، فأنا أحمل شهادة المعهد التجاري المتوسط التي لم أتوظف عليها يوماً ، وأنا بائع البانزين المعروف للجميع لم اتوقع يوماً أن تكون تهمتي "تمويل الارهاب" ، فأنا لازلت استدين ربطة الخبز من دكان "أبو محمد" ، وقد اغرقتني الديون واتعبني الفقر ، حتى منعت ابني من التعليم ليساعدني في العمل. و كامل جنايتي أنني تظاهرت مع ابناء قريتي ورفعت بعض اللافتات وطالبت معهم باصلاح جهاز الدولة ، وليتني لم أفعل.

أمضيت ثمانية أشهر ويزيد ، حيث تم تكديسنا قرابة ستين معتقلاً ، الجنب بالجنب ،و الاكتاف بالاكتاف ، وكانوا يسوموننا اسوء انواع العذاب ، الضابط يتفنن في تعذيبنا وترهيبنا ، المحقق يتفنن في تعذيبنا وترهيبنا ، الجنود .. البواب .. الحرس .. كلهم كانوا يتسابقون مثل مصاصي الدماء لتعذيبنا وتسييح دمنا.  

الطعام يخلو من الاملاح والسكر ، فتجد الاجساد تنحل وتذوب شيئاً فشيئاً ، وأي طعام ، قليل من الخبز اليابس وبعض الماء ، كثير منا لم يحتمل ذلك ، وكل فترة نكدس في زاوية زنزانتنا جثة جديدة ، فالغبار والحرارة الخانقة ، والانفاس المتعبه ، وبول وبراز المساجين ينسال من تحتنا برطوبة ، ووجه السجّان الدامي وحده يثير في وليجة انفسنا تساؤلات ما هي نهاية كل واحد منا .  

هذا الجو الخانق يدفع الكثير منا بهستيرية للصراخ ، فأنا اذكر جيداً ما فعلوه بذاك العجوز الاعمى والذي كانت تهمته (أنه رامي قاذف 23 )، عندما زعق أحد المعتقلين بوجهه لأنه تبول لا إرادياً تحته وتحسس تبوله دون قصد ، فصرخ للبواب واتهم هذا العجوز بأنه يصلي وهو مبلل بالبول . ردد السجان بقوة عندما سمع تلك التهمة "يصلي!? " فقد كانت تلك جناية عظيمة عندهم . إذ تم اخراجه بالضرب من قبل السجانين ،ليعود بعد أن "شبحوه" ثلاثة أيام عارياً ومكبلاً وقد ربطوا عضوه الذكري الهزيل بسلكٍ حديدي ، ثم علّق ذاك السجان قائلاً «الآن ستكون طاهراً ، ستصلي ولن تتبول على نفسك يا “كرنيب الشيب” ».

لم ينطق ابداً ذاك العجوز ، أسندوا ظهره على الجدار ، وعيناه الطافيتان الدامعتان ترمشان بفتور فوق لحيته التي غطت وجهه ، كان وجهه الشاحب ، وجبهته المخططة بالغضون تكفيه لأن ييأس من عالمه ، ليس بالكلام والشكوى ، فقط بالأنين والتوجع ، ليتني .. ليتنا استطعنا مساعدته . اذا في تلك الليلة أخذ يدندن بصوته الرخيم والحزين أغنية بدوية قديمة مستذكراً إبنه "علي" الذي قتلوه في باحة المدرسة ، وبين حين وآخر يجهش في البكاء مغنياً :

يا "علي" علّيتني وقفيت

خذني معك لا تخليني

سكّروا علي الباب

خذني معك يا بعد عيني

خفت وأنا أنحب معه أن يأتي البواب ويضربه ، لكن يبدو أن البواب كان يترنم على عذابه ، اذ لم يمض يومان حتى مات لنحمله بعدها (طاهراً )ونضعه في زاوية كنا نخصصها لتكديس الجثث.

كنا ننظر الى بعض بعيون ناشفة ودامعه ، وتقاسيم وجوهنا الشاحبة تتسائل "لما لا يساعدنا الله" . فقط "عمر" كان له مع اليأس حال آخر وجواب آخر ، اذ أخذ يصرخ بعبارات ضد النظام وهو يبكي ، ثم سقطت عيناي على وجهه ، ابتسم في وجهي ابتسامة حزينة ، وكف عن الكلام ، وهو يتطلع ملياً على جثث الاصدقاء والاقارب المكدسة في زاوية الحجرة ، وبقايا اجساد الرفاق الأحياء ملتصقة ببعضها وبالعظم ، ثم قال كمن يحدث نفسه " لو انهم يقطعوا عنا الطعام حتى ينتهي عذابنا ، لو أنهم يصوبوا بنادقهم على رؤوسنا فنحيا".

عندها صرخ شاب آخر لم أعرفه يردد بصوت خافت ومرتجف"يا ألله ..يا ألله" ورويداً رويداً ، تنازعتني الرغبه وأفرطت في البكاء ، ورحت اردد معهم «يا ألله .. يا ألله» فاذا باصواتنا ترتفع وقد انسجمت بطول المران تملأ الحجرة ، وتتكسر على الجدران الحجرية تئن وتنتحب ، موقظة ذاك العذاب المنطوي في النفوس ، ثم يعلو صوت أحدنا يغطي على ندائاتنا "يا ألله .. ألا تنصرنا يا ألله".

فتح السجّان الباب ، وطلب منا الصمت ، لكن كان صوتنا يرتفع أكثر ، ولم نعد نسمع صوته ، فجأة أخرج من جعبته ’رومانة يدوية’ (قنبلة)  ، إعتقدت - ومثلي رفاقي - انه يخيفنا بها ليسكتنا ، ولم نعتقد أنه سيفلت مسمار أمانها ، لكنه فعلها وألقاها بيننا وأطبق الباب خلفه ، ليضيع صوتنا ويعلو صوت الرومانة لتفتت عظمنا ولحمنا ، حل بعدها سكون كبير ، بعضنا سكن دون حراك للابد ، والبعض الآخر توجع لدقائق ولساعات والبعض لأيام حتى مات ، أما الآخرون فقد تعفنت جراحهم ولشدة الوجع طلب احدهم ان نقتله ليرتاح ، لم يقو احد منا على مجاراة طلبه ، فتركناه حتى مات .

بقينا اثنا عشر رجلاً ، نتخيل بأي طريقة سنموت ، جوع .. مرض .. اسهال .. خنق ..،  نمت في تلك الليله وقد سلّمت أمري لله ، وأنا افكر كيف سأموت ففي القبر ينتهي العذاب ، وعند الله سآخذ بثاري .

في الصباح علا صوت الرصاص في فناء قيادة اللواء ، وبدا لنا أن معركة قد بدأت ، وبعد ستة عشر يوماً حل سكون جميل ، فُتح الباب ووقف أحدهم بقامة جميلة يصرخ (يوجد معتقلين يا شباب .. لا تخافوا نحنا جيش حر) ، أدركت وقتها لفرحتي أن الله كان معنا ، وليتني استطعت وقتها و قبّلت كل من حررني من عناصر الجيش الحر.

وهذه هي حكايتي استاذ شاهر ، وهناك الكثير وأنا أحدثك الآن يعاني أكثر من ذلك ، وينتظر مثلما انتظرت أن تأتي المعجزة.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات