كيف انحدرت الحياة السياسية في الولايات المتحدة إلى هذا الدرك؟

كيف انحدرت الحياة السياسية في الولايات المتحدة إلى هذا الدرك؟
الولايات المتّحدة الأمريكيّة، الدولة الأكبر في العالم إقتصاديّا فهي تمثّل لوحدها 30% من الإقتصاد العالمي، كما أنّها الدولة الأقوى في العالم من الناحية العسكريّة، إلى درجة أنّه لا يمكن مقارنتها مع أي دولة أوحلف لمجموعة دول ومن ناحية الإكتشافات العلميّة والإختراعات فهناك فجوة واسعة بينها وبين دول العالم مجتمعة . 

لكنّ الحياة السياسيّة في هذا البلد الكبير لا تتناسب أبدا مع موقعها بالنواحي الأخرى ، وهوما يتابعه العالم يوميّا الآن بشكل أقرب ما يكون للمسرحيّة الهزليّة  . ونستطيع ملاحظة ذلك بوضوح عند مراقبة الإنتخابات الرئاسية الأخيرة وثقافة وكفاءة المرشّحين والّتي يمكن إعتبارها أقلّ من متواضعة ، ولكن كيف؟ ولماذا إنحدرت الحياة السياسيّة في الولايات المتّحدة إلى هذه الدرجة خلال السنوات الأخيرة ؟. 

هذا التراجع أخذ عدّة عقود ولكن هناك مفصلين أساسيّين لعبا دورا جذرياً في هذا الإنحدار، الأوّل إقتصادي ويمكن إعتبار بدايته مع بدايات إنهيار الإتّحاد السوفييتي ومنظومته الدوليّة والّتي كان سببها الرئيسي فشل الإقتصاد المركزي الموجّه لما كان يسمّى وقتها بالمعسكر الإشتراكي نتيجة فقدان الحافز وإنعدام المنافسة وغياب روح الإبتكار وسيطرة البيروقراطيّة وعوامل كثيرة أخرى ، هذا الإنهيار إعتبره الكثيرون انتصارا نهائيّا لإقتصاد السوق ولمبدأ المنافسة "الحرّة" وأدّى ذلك في نهايات القرن العشرين وخاصّة في عهد تاتشر وريغان إلى مجموعة من الإجراءات والقوانين الّتي عرفت "بنزع الضوابط" أي عدم وضع أي قيود حكوميّة أمام رأس المال، وترك آليّات السوق الحرّ والعرض والطلب بإعتبارها الطرف الوحيد الّذي يمكن أن يتحكّم بالعمليّة الإقتصاديّة لأنّها أكثر مرونة وتستطيع معالجة مشاكلها بنفسها . ونتيجة لذلك لم يعد بإستطاعة الحكومات التدخّل مثلا بالرواتب الّتي تدفعها الشركات لعمّالها مهما كانت منخفضة كما أصبح مسموحا شراء شركات صغيرة من قبل شركات أكبر أوإندماج مجموعة شركات والّذي كانت القوانين السابقة تمنعه لمنع الإحتكار والهيمنة على السوق والإقتصاد ، ممّا أدّى بعد بضع سنوات إلى قيام كيانات إقتصاديّة عملاقة ومحدودة العدد تسيطر على المجالات الإقتصاديّة المختلفة، والّذي نجم عنه بالتالي إحتكار كل السوق من بضع عشرات من الأفراد ، فعلى سبيل المثال مخازن "وول مارت" لتجارة المفرّق يعمل فيها عدد قريب من مليونين ونصف موظف في الولايات المتّحدة فقط، ولم يعد هناك أي مجال لمنافستها وكما قلنا لا تستطيع الحكومة التدخّل بما يقدمه وول مارت من رواتب لعمّاله مهما كانت منخفضة ولا تكفي لحياة كريمة أوعدم وجود ضمان صحّي أوتقاعد للأغلبيّة الساحقة منهم ، كما وسّعت هذه الشركة نشاطها التجاري عبر العالم بإفتتاح فروع لها في 15 بلدا منها البرازيل والأرجنتين واليابان والصين والمكسيك وكندا وبريطانيا ، كل هذه السلسلة الهائلة من المتاجر تمتلكها عائلة واحدة فقط ، وعلى هذا النمط هناك إحتكار لكل الفعّاليات الإقتصاديّة والماليّة الأخرى ممّا أدّى في النهاية إلى أنّ 1% من السكّان المتربّعين على قمّة الهرم الأكثر ثراءا يملكون أكثر من ما يملكه 90% من باقي سكّان الولايات المتّحدة في قاعدة هذا الهرم كما أكّد ذلك بيرني ساندرز المرشّح الديموقراطي البارز وهذه حقيقة واضحة لا خلاف حولها  .  

هذه المجموعة الصغيرة عدديّا والفاحشة الثراء من الطبيعي أن تفعل ما في وسعها لكي يكون لها دور سياسي يوازي قوّتها الإقتصاديّة، وبما يضمن المحافظة على ثرواتها ، لكنّ مجموعة من القوانين كانت تعيق هذه العمليّة ، فمثلا كان الحد الأقصى لما يمكن للفرد التبرّع به للمرشّح لمنصب سياسي هو1000 دولار حتّى لا يستطيع أحد التحكّم بالسياسيّين أوأعضاء الكونغرس أوالمشرّعين ، فتمّ رفع هذا المبلغ بالتدريج إبتداءا من عام 2002 حيث أصبح 2000 دولار ، حتّى وصل في عام 2010 إلى إصدار المحكمة العليا في الولايات المتّحدة تعديلا تمّ بموجبه رفع الحظر على مقدار التبرّعات الّتي تستطيع الشركات تقديمها للمرّشحين وأصبحت من دون أي سقف، وتمّ إعتبار حريّة التبرّع كشكل من أشكال حريّة التعبير ممّا أدّى لزيادة كبيرة جدّا في مقدار الإنفاق على الحملات الإنتخابيّة وإعادة ترتيب الخريطة السياسيّة للولايات المتّحدة الأمريكيّة ، وفي تعديل آخر في نيسان 2014 تمّ إلغاء القيود على تبرّعات الأفراد ، ولم يعد بإمكان الأغلبيّة المطلقة من الأمريكيّين الحلم بلعب أي دور سياسي إذا لم يكونوا من أصحاب الملايين بعد أن أصبحت كلفة الحملات الإنتخابيّة مئات الملايين وأكثر. 

استيقظت الولايات المتّحدة على واقع جديد كلّيا يقوم فيه بعض أصحاب الثروات الخرافيّة بإستدعاء بعض المرشّحين للمناصب السياسيّة بما فيهم المرشّحين لمنصب الرئيس لما يشبه الإستجواب ، حيث يقوم هذا المرشّح بتوضيح مواقفه ورؤيته حول كلّ القضايا الإقتصاديّة والسياسيّة والدوليّة وغيرها ليقرّروا في النهاية من من المرشّحين سيحصل على تبرّعاتهم ، والّتي هي من فئة مئات الملايين من الدولارات ، وقد كانت نتيجة تدخّل كل هذه الأموال في العمليّة السياسيّة واضحة ، فمثلا 95% من المرشّحين الجمهوريّين لمجلسي الشيوخ والنوّاب الفائزين في الإنتخابات الأخيرة هم الحاصلين على أكبر التبرّعات ، ولم تكن النسبة عند الديموقراطيّين مختلفة كثيرا ، وكما هوواضح فالمواصفات المطلوبة للحصول على أكبر كميّة من التبرّعات مختلفة عن المواصفات المطلوبة لمن يريد قيادة وتوجيه الرأي العام أولمن يكون هدفه العمل في سبيل مصلحة ناخبيه وبلده ،  فلا دور هنا للكفاءة والجدارة والنزاهة والخبرة ، بل قد تكون المداهنة والتملّق والمهارة في الكذب هي المواصفات الجديدة لمن يريد تقلّد منصب في الولايات المتّحدة الأمريكية لأنّ هذا الطريق يمر عبر رضى كبار المتبرّعين والّتي يسمّيها الرأي العام في الولايات المتحدة البنوك أوالوول ستريت . 

ونتيجة لذلك خلال حملة الإنتخابات الأمريكيّة الأخيرة لم يعد من الممكن تجاهل الحالة المخجلة الّتي وصلت إليها الحياة السياسيّة في هذا البلد الكبير ، فعلى المنصّة في المناظرات بين المرشّحين لمنصب رئيس الولايات المتّحدة الأمريكيّة ترى مجموعة من الأشخاص، الكثير منهم، لا يملك الدرجة المطلوبة من المعرفة والثقافة والمواصفات الشخصيّة الّتي تؤهّله لأي منصب رسمي فكيف لرئاسة الولايات المتحدة ، حتّى أنّ بعض السياسيّين والإعلاميين أطلق على هذه المناظرات في الحملة الأخيرة وصف السيرك لما شاهده كلّ العالم من إجتماع للجهل والكذب وإنعدام المؤهّلات عند نسبة غير قليلة من المرشّحين وبدرجة فاقعة . 

ولا ننسى إزدياد نفوذ وحتّى تحكّم هذه الفئة الفاحشة الثراء بالإعلام إلى درجة أنّ البعض أصبح لديه شكوك مشروعة مثل : هل مازال هناك إعلام حرّ في الولايات المتّحدة الأمريكيّة ؟ ، وللإعلام دور حاسم في توجيه الرأي العام وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص . 

ونتيجة لذلك ولأسباب أخرى كثيرة نحن نرى اليوم حالة غير مسبوقة من الإنقسام داخل المجتمع الأميركي على أسس عرقيّة أوطائفيّة أوإقتصاديّة أوسياسيّة ، تترافق في بعض الأحيان مع درجة من الغضب وفي بعض الأحيان تجد طريقها للشارع ، هذه الظروف الصعبة الّتي تمر بها الحياة السياسيّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة تتطلّب درجة من الحكمة والمعرفة والصفات القياديّة والّتي من الصعب جدّا أن نجدها عند أغلبيّة الطبقة السياسيّة الحاليّة بسبب  مؤهّلاتها المحدودة نتيجة لهذه القوانين التي ذكرتها سابقاً ، كما أنّنا لا نستطيع التنبّؤ بما يحمله المستقبل لهذا البلد الكبير إن لم يتم تدارك سيطرة رؤوس الأموال على العملية السياسية .

التعليقات (1)

    عامر

    ·منذ 7 سنوات 9 أشهر
    المال اليهودي يتحكم بهم
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات