سوريا.. بين عالمٍ مأفون وأجوبة تتوسل اليقين

سوريا.. بين عالمٍ مأفون وأجوبة تتوسل اليقين
في واقعنا العربي المُستعصي عبوره إلى ضفة الخلاص، كل الأسئلة عن الخيارات المطروحة حول مصير أوطاننا وشعوبنا، لا إجابات واضحة عليها طالما أن الأسئلة تلك أكبر من المشاريع المحتملة للرد عليها. في سطوة الفتك المادي والمعنوي الذي يجتاح كل ممكنات العيش الكريم والآمن في بلادنا المُستباحة، أصبح الهروب من جحيم صراعاتها غير المُحتملة، يطغى على آمال من لازالوا يدافعون عن ذاكرة ومعنى، وحلم للبقاء فيها.

الأسئلة الوجودية الأشد إيلاماً في حقبة الانكشاف السافر: ما الجدوى من الانتماء لمجتمعات تتشظى بين أنظمة متوحشة وثورات مُجهضة وهويات قاتلة، وصراع من جولات بين الحق والباطل في ذروة صناعة الالتباس بينهما، وفي ظل قوى تتناحر على جثة أوطان تلفظ أنفاسها الأخيرة، فيما تتوحد فقط على خنق العقول ووأد الأفكار والإطاحة بحرمة الإنسان.. !؟

لم يعد احتمال ثمن الحرية ممكناً حين يُعادله الغياب التام للحق في الحياة، وحين يغطي الدم الراعف وجه الطفولة في موتها الصامت، حتى ما عاد للرثاء معنى يجدد دورة الحياة لمن يحصد الحزن الجارف أمنيته الأخيرة. وحده مسرح النفاق، والعبث والتورية يعزف نشيد الوهم على أطلال الفاجعة، ويُحيل جحيم الوجود إلى صورة باهتة فوق شريط الأخبار، كي تتناقل شاشات العهر العالمي لعنات الموتى بلا أدنى ارتياب.

هكذا دون أن نكون مهيئين لمواجهة حقيقتنا العارية، لم تعصمنا أحلامنا الغضة من الانزلاق نحو قعر الهاوية، ولم يغفر جهلنا بمرويات الحقد الكامن في خوابي التاريخ، من تحولنا إلى أشلاء بشرية لا تستثير حتى وجوم الإنسانية الأخرى.

وما اعتقدنا أنه عابرٌ في طريق ذهابنا نحو المُحال، تبدى بعد تشتت الدروب وضياع الفكرة الأولى بين طبقات القهر، أنه لا يشبه توقعاتنا عن ذاك العبور الحتميّ الذي سكبته يقينياتنا الثورية، ولا هو محض امتحانٍ عظيم نستقي منه آيات صبرٍ لا تروي عطش رضيعٍ ولد في أزمنة الحصار.

عشنا في بلادٍ شُبّه لنا أنها مشاريع أوطان، ولم نعلم - رغم الذي نعلم -  أن من يقبض على مفاتيح أبوابها، عصابة محترفة في قتل روح الشعب، وتحويل أحلامه إلى كوابيس، لكن مالم نعرفه أنها محترفة ايضاُ في توريث من يعاديها بَصمات ميراثها المديد، لذلك لم تتجاوز ثوراتنا في وعي من قبضوا على مفاتيحها، ذاك الميراث اللعين وأدواته الكاسرة لنزعة التغيير، ومن مجزرةٍ هنا وخذلانٍ هناك غاب الشعب بين فوّهات الجحيم ومجارف اليأس.

لم يعد ثمة ضجيجٍ حتى لشجاعٍ ينتحر احتجاجاً على مضغ الهزيمة، فلم ينسَ مَن فلسفوا عدم جدارتنا بالحياة، ومن أهالوا غبار الكلمات على موت ربيعنا، أن يضعوا الشمع الأحمر على آخر نافذةٍ  تطل على الأمل. حتى الفارق في المعنى بين البقاء والهروب، تلاشى في لحظة ذهول الأجوبة أمام فظاعة التبرؤ من بشريتنا المهدورة.

كان لزوماً أن نكون كبش محارق كل صراعات الكون، كي يبقى من يقتل تحت سقف الوطن المسفوح، ومن يؤازره باسم الممانعة المذهبية، ومن يتاجر باسم الثورة المغدورة، ومن يستثمر في إعادة إعمار خرائبنا المنسية، طلقاء جميعهم في رسم الصورة المثلى لهويتنا الضائعة بين الأوجاع والمنافي. فتَّشوا عن كل ثقوبنا السوداء، وعرفوا كل تواريخ ثاراتنا القبلية، وأحزابنا العقائدية، ونُخبنا المسلوبة. لم يبق مستشرق أو مخبر أو صائد طرائد، إلا وأدلى بدلوه في المنازلة المفتوحة على عودتنا إلى حظيرة الطوائف، والدويلات، والكانتونات. تلك هي النسخة الاستشراقية الأحدث التي هندسها صنّاع الفوضى المُنظِمة لإدارة توحشنا، وتلاقى المستبدون العتاة مع المتطرفين من كل الملل على تطبيق الرسالة بحذافيرها، وما بين دعاة حماية الأوطان من الإرهاب بإبادة كل نبضٍ حي، ودعاة إحياء زمن الخلافة بوميض السيوف، ودحرجة الرؤوس، تناوب السفاحون والقتلة بالتوافق الصريح والمضمر مع شركاء الخديعة الكبرى، على تأديب كل من خالجه حلم الحرية والكرامة، ووضعه بين خيارات الفناء أو التشريد أو الهروب. خمس سنوات لم تكن كافية كي يعلن شعب يتيم استسلام ثورته اليتيمة، لكنها كانت شاهداً دموياً مرعباً على  أطول مجزرة في تاريخنا الحديث، لازال التمويه عليها شاهداً أكبر على نفاق وتواطئ العالم وانهيار منظومته الأخلاقية دون نأمة خجل.

 من هو المؤرخ الراوي الذي سيوثق هذه الحقبة الفاضحة على سقوط العالم؟ لابد أن يُبحر في أرشيف يقطر دماً وقيحاً وصراخاً وعويلاً، وأن يغرق في بحور من المفارقات السياسية والأخلاقية التي تفيض عن حاجة اللغة إلى المجاز، ولابد وهو يسجل حكاية كل ضحية ومصيرها المروّع، أن يتحسس جسده وروحه وعقله كي  ينجو من هول البراميل، والزنازين، والسكاكين. لن يعوزه استحضار كل سرديات الحروب والمآسي كي يقارن بين ضروب الموت الجماعي، فلديه شريط تدوي بين طيّاته مجازر ومصائب وانكسارات لامتناهية، تكفي لتأريخ جديد يطوي ذكرى وذاكرة عالمٍ مأفون. يقيناً حين ينتهي من تدوين ألوف المجلدات، عمّن قضوا، ومن أجرموا، ومن خانوا، ومن خذلوا، ومن تشتتوا في رياح الأرض، سيطلق زفرته الأخيرة، وينظر من نافذته إلى أفق لم يراه من قبل، ولن يعود كما كان لأن بلداً اسمها سورية كانت الحد الفاصل بين الموت والحياة، وقفت تكابد كل مظالم الدنيا كي يبقى للمعنى بصيص حياة.      

  

التعليقات (1)

    مواطن عربي

    ·منذ 7 سنوات 9 أشهر
    صدقت يا اخي.ولكن لعنة الدم المسفوك ستلاحق جميع من تواطأ او سكت او تجاهل
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات