سؤال ردده الكثير من السوريين بعد يوم الجمعة التاريخي، تارة جهارا، وتارة خفية على استحياء، فعلى الرغم من الفرحة العارمة التي انتابتهم نتيجة إفشال الانقلاب، الذي ساهموا بأنفسهم بإفشاله ولو بنسبة بسيطة، سواء بشكل مباشر من قبل بعض المجموعات البشرية السورية الصغيرة التي شاركت اخوانها الاتراك في التصدي للانقلابين، أو من خلال دعواتهم الصادقة التي لم تفتر للحظة ليلتها، فمصير الثورة السورية والدعم المقدم لها من قبل الدولة التركية، ومصير اللاجئين السوريين الذين فاق عددهم المليوني لاجئ، كله، كان معلقا بنتيجة أحداث تلك الليلة، وليس ببعيد عنا انقلاب مصر ونتائجه الماثلة أمام أعيننا.
ورغم الاختلاف الجذري بين حالتي "الثورة" و "الانقلاب" إلا أنه لا بأس، بل من الضروري إيجاد مقاربة بين التجربتين على اختلافهما، للمقارنة والاستفادة، بغاية تصحيح المسار، أو حتى تخفيف وطأة المعاناة النفسية التي وقع السوريون تحت ضغطها بالمقارنة بين الحالتين، وما نتج عن تلك المقارنة من تحميل أنفسهم ما هو خارج عن إرادتهم أحيانا وما هو ضمنها أحيانا أخرى.
يتناول هذا المقال البعد الشعبي أو الجماهيري للحالتين، ولن يدخل في العوامل الكثيرة والهامة التي أثرت في اتخاذهما المسارات المختلفة التي سلكاها، وخاصة في ما يتعلق بإفشال الانقلاب، فهناك امور كثيرة أوصلته لتلك النتيجة، بدءا بالتوقعات المسبقة –لاشك- بقدومه، وما تبع ذلك من تخطيط لمواجهته، أو ما تلى من أحداث، سواء تدخل قوى الامن الخاصة أو الشرطة، أو تكاتف القيادات العليا في الاجهزة الامنية المختلفة ، أو غيرها من العوامل كانت حاسمة للوصول الى هذه النتيجة.
أكثر ما لفت الانتباه في ليلة الانقلاب هو التكاتف المذهل الذي أبداه الشعب التركي، بمختلف أيدولوجياته، توجهاته السياسية، انتماءاته العرقية والطائفية...الخ ، لقد هرع هذا "النسيج الاجتماعي" الى الشارع، متناسيا كل الاختلافات، تلبية لنداء المحافظة على وطنهم وحماية اختياراتهم الديمقراطية .
ان المحرك الاساسي للجماهير التركية كان ايمانها العميق بأن كلمتها وتحركها سيشكل الفرق! وهذا هو الاختلاف الرئيس بين الحالتين التركية والسورية، أي، ايمان الانسان التركي بأن له صوتا يُسمع، وأن هذا الصوت سيشكل الفرق. هذا الايمان هو عامل أساسي لإحداث أي تغيير، إيمان الانسان بصوته وقدرته على الفعل، هي ما تجعله قادرا على إحداث الفرق، وهذا الايمان لم يأت من فراغ، أو بين ليلة وضحاها، وإنما أتى نتيجة بناء وتربية تجذرت في نفوس الافراد من خلال المبادئ والقيم والافكار التي عززتها التجربة التركية الواقعية عبر عقدين من العمل الجاد.
يمكن ملاحظة هذا الامر في الحياة اليومية للأتراك، وهو نتاج لعمل دام سنوات طوال، كما أسلفنا، فمَع تسلٌم أردوغان لرئاسة البلدية بدأت عملية غرس تلك المعاني، من خلال الاصلاحات التي قام بها، ومحاربته للفساد، وتحقيق النجاحات، استطاع هو وثلة من أصحابه ، زرع تلك البذور عن طريق "القيادة بالقدوة "، وكانت الفكرة الاساسية : أن إنسانًا واحداً إن آمن وبادر وعمل سيصل الى الاهداف مهما كان حجم الفساد والعقبات، هذه معاني عميقة وفكرة أساسية لابد من التنويه لها، وهي تُمثل تغيراً في منهج تفكيرٍ لشعب كامل، لتصبح قيم هامة مثل: المبادرة، المشاركة، والقدرة على التغيير مغروسة في كيانهم. تَبِعَ ذلك طبعا تَدَرجٌ متتالٍ لأردوغان في سلم السلطة، متسلحا بتمسك الشعب التركي له، فَصَوتُ ذلك الشعب هو ما أوصله الى ما هو عليه، لقد آمن الشعب التركي بذلك الشخص الذي حمل همومهم وأحلامهم وبدأ بتحويلها الى واقع ملموس يحسونه وينعمون به، المعادلة بسيطة إذاً: العمل والاجتهاد لأشخاص مخلصين + صوت ودعم الجماهير هو سبب الفرق والاختلاف، وهو ما تمثله التجربة التركية. لقد أصبح هذا الوعي متجذرا في الثقافة التركية ، ومن ممارسات وبديهيات الحياة اليومية، وأوضح تمثيل لهذه الفكرة هو ما يمكن للمراقب ان يراه بسهولة في فترات الانتخابات، حيث تجد الجماهير الغفيرة بمختلف الاعمار تصطف على ابواب النقاط الانتخابية للإدلاء بأصواتها، مهما كانت المشاغل، لأنها تعتبر ذلك حقا لها وواجب لإحداث التحول الديمقراطي والبناء المجتمعي والاقتصادي .
أما في الحالة السورية فإننا سنجد نقيض ذلك تماما، فقد عمل نظام البعث طوال الخمسين سنة الفائتة على زرع قيم سلبية معاكسة للمذكورة أعلاه ، فمن انعدام حقوق الافراد وكراماتهم وحرياتهم، الى انتشار الفساد بكل اشكاله، كل ذلك أدى الى زرع أفكار وطاقة سلبية لدى الأفراد، أفقدتهم ايمانهم بأنفسهم وقدرتهم على المبادرة.. التغيير.. أو "إحداث الفرق" ، وهنا لابد من القول أن ذلك يقتضي توجيه إكبار حقيقي للأفراد والمجموعات التي قادت وشاركت بالثورة السورية في بداياتها، واستمرت حتى الان، فقد استطاعت -رغم كل الضغوط والقيم السلبية التي زرعها النظام- من المحافظة على روح المبادرة والايمان بالقدرة على التغيير، وعليه، وبعكس الاعتقاد السائد، نجد أن الشعب السوري يستحق كل التقدير والثناء، أما اللوم الذي نوجهه لأنفسنا كسوريين ويقع ضمن إطار السؤال المعنون لهذه المقالة ، وهو نجاح الشعب التركي في إفشال الانقلاب في وقت قصير وفشل الشعب السوري في إنجاح ثورته بعد هذه المدة الزمنية الطويلة ، فيبدو لوماَ ليس في مكانه.
أمر آخر مهم وجدير بالذكر هنا، وهو الدور الفعال الذي لعبته المساجد في الحالتين، لقد كان دورا أساسيا ومتشابها لدرجة كبيرة، فمن ذا الذي يستطيع انكار ان المراكز الاولى التي انطلقت منها الثورة السورية كانت تلك المساجد ذات الخطاب الاسلامي الوسطي، الذي يحمل أبعادا وطنية في طياته، والبعيد كل البعد عن كل أنواع التمييز الطائفي أو الديني أو العرقي، منذا الذي يستطيع انكار أهمية ما قدمته تلك المساجد عندما لعبت دورها الحقيقي بكونها مراكز فكرية موجهة للأفكار ورافعة للهمم، منذا الذي يستطيع إنكار رمزية المسجد العمري في درعا، والكثير من المساجد التي مثلت منارات للتحرك الثوري، والذي جهد النظام لقصفها وتخريبها لإحباط همم الثوار، نعم، لقد عرف النظام ذلك، وقد عرف الانقلابيون في تركيا ذلك أيضا، ولكن بعد فوات الاوان، وما الفيديوهات التي انتشرت مؤخرا حول محاولات الانقلابيين لإسكات صوت المساجد في تركيا، إلا خير دليل على الخوف الحقيقي المشروع منها ومن تأثيرها على الناس.
وحتى نكون منصفين، عادلين في المقارنة، ولتحديد مكامن الخطأ، فإن هناك أمرا جوهريا أخطأ السوريون به ، مع كونه عاملا نفسيا حاسما في إفشال الانقلاب في تركيا، وربما العامل نفسه كان سببا أساسيا في إطالة أمد الثورة السورية حتى الآن، وهو حالة "القيادة الموحدة"، مهما اختلفت الافكار والآراء حول هذا الامر وضرورته، إلا أن الايام والاوضاع أظهرت ضرورة وجود هذه القيادة، سواء كانت على شكل فرد أو مؤسسة، ليس للتأليه أو إضفاء صفة "المخلص" عليها، ولكن لتكون رمزا تجتمع كل الجماهير حوله، وتسير معه ووراءه.
لقد تناسى كل الاتراك خلافاتهم السياسية او اعتراضاتهم على "قائدهم" في لحظات الانقلاب، ومع ان دافعهم الى ذلك كان الخوف على بلدهم وديمقراطيتهم ، ولكن لايمكن إنكار دور القائد الذي أضاء لهم هذا الطريق، وأرشدهم، وطالبهم بالنزول الى الساحات والميادين، وقد لبوا نداءه، وتحركوا جميعا بعد ظهور أردوغان على تلك الشاشة، وليس قبل ذلك، لم يمنعهم اختلافهم معه على العمل برأيه، أجلَوا كل الخلافات والقضايا الفرعية ، جمعتهم القضية الكبرى، قضية الوطن الذي من الممكن أن يضيع إن هم تفرقوا في هذه اللحظة الحاسمة، لقد عرفوا اهمية الالتزام بقيادة موحدة. لنصارح أنفسنا، لقد افتقدنا لذلك كسوريين، ومازلنا، فالتركيز على الاخطاء البشرية التي لا يخلو منها انسان، ومطالبتنا بقيادة "ملائكية"، والتركيز على القضايا الفرعية، وحب السلطة وتسيير الاجندات الشخصية...كل ذلك أدى الى تقزيم رموزنا وتحطيمها في أعيننا، حتى لا نكاد نتفق على شخصية واحدة لتقطع بنا هذه المرحلة الخطيرة التي تباد فيها سورية أرضا وشعبا.
في الختام، يجب القول أن هذه التجربة التاريخية التي مرت أمام أعيينا، وعلى قصر مدتها، إلا أنها تحمل من العبر والدروس الكثير الكثير الذي يجب أن نكون موضوعيين في الاستفادة منه، بدون إفراط ولا تفريط، علَنا نساهم في تصحيح المسار بغاية وصولنا الى اهدافنا التي بدأنا ثورتنا لأجلها.
دينا رمضان
باحثة سورية
التعليقات (9)