التقارب التركي الروسي... الخلفيات والآفاق

التقارب التركي الروسي... الخلفيات والآفاق
تتسارع الخطوات في الفترة الأخيرة للتقارب بين روسيا وتركيا، فبعد حديث الرئيس الروسي بوتين في اليونان نهاية أيار/مايو الماضي عن رغبته في تحسين العلاقات بين البلدين، شرط أن تأتي الخطوة الأولى من تركيا، ردّت هذه بتصريحات إيجابية من نائب رئيس الوزراء نعمان الدين قورتولموش، ومن الرئيس أردوغان نفسه، ثم استمرت سيرورة التهدئة والتقارب برسالتي تهنئة من أردوغان، ورئيس وزرائه بنيالى يلدريم بالعيد القومي الروسي، رحّب بهما الكرملين، ولكن اعتبرهما غير كافية لتحسين العلاقات انتظار الخطوة العملية الأولى من أنقرة.

إذن يكمن التحدّي أو المعضلة الآن بالخطوة الأولى وماهيتها، وكيفية تجاوز الأزمة النفسية السياسية الاقتصادية والإعلامية، بين الجانبين حيث تطالب روسيا بالاعتذار التعويض ومحاسبة المسؤولين عن إسقاط الطائرة السوخوي في تشرين ثاني/نوفمبر الماضي، بينما ترد تركيا بأن الطائرة الروسية اخترقت الأجواء التركية فعلاً، وأنها ردت حسب قواعد الاشتباك المعمول بها دولياً، علماً أنها قامت فعلاً بمحاسبة الشخص المسؤول عن مقتل الطيار الروسي الذي هبط اضطرارياً في الأراضي التركية.

حسب المعلومات ثمة اتصالات غير معلنة تجري الآن قد تتطور إلى لقاءات روسية تركية مباشرة من أجل الخروج من مأزق ونفق الخطوة الأولى، ومن ثم اتخاذ الخطوات اللازمة لتطبيع العلاقات، باعتبارها  حاجة مصلحة حيوية مشتركة للطرفين.

لعدة أسباب سياسية اقتصادية واستراتيجية تريد أنقرة تحسين العلاقات مع موسكو، وإعادتها لمستواها الطبيعي، عندما كانت الخطوط السياسية مفتوحة على أعلى المستويات، وكان حجم التبادل التجاري السنوي أكثر من ثلاثين مليار دولار، ثلثيها تقريباً لصالح موسكو من عوائد بيع الغاز الطبيعي لأنقرة.

بداية لا بد من الإشارة إلى أن التقارب مع روسيا يأتي في سياق إعادة ترتيب تركيا لعلاقاتها الخارجية مع دول الجوار الإقليم والعالم، تقليل العداوات وزياردات الصداقات، كما قال رئيس الوزراء بنيالى بلدريم فيما يمكن اعتباره تحديث ما لسياسة تصفير المشاكل التي ابتدعها رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو.

بشكل عام  تشعر أنقرة أن حلف الناتو خذلها وتركها وحيدة في مواجهة روسيا في حادثة إسقاط الطائرة، وبدا لسان الحال الغربي الأمريكي تحديداً أن أنقرة أخطأت بإسقاط الطائرة، وما كان يجب أن تصل الأمور إلى هذا الحد، ثم طالب الحلف بعد ذلك بحلّ المشكلة ودياً، وتحسين العلاقة، وعدم توتيرها مع روسيا في القضية السورية تحديداً.

الناتو تخلى عن تركيا أيضاً في القضية السورية، حيث مالت أنقرة إلى فكرة مواجهة التدخل الروسي وحصار موسكو وعقابها، وإقامة منطقة آمنة للمعارضة واللاجئين شمال سوريا، وعدم الاعتراف أو مكافأة موسكو على حقائق ووقائع، خاصة فيما يتعلق بتقوية النظام وإعطاء الأولوية للحرب ضد داعش، مع تجاهل جذر المشكلة المتمثل ببشار الأسد، وممارساته وجرائمه بحق الشعب السوري.

وعلى عكس أوكرانيا التي تم فرض عقوبات اقتصادية صارمة على روسيا بعد تدخلها الفظّ، ثم احتلالها العسكري للقرم ومناطق شرق أوكرانيا. بدا الغرب متساهلاً جدّاً مع روسيا بعدما فعلت الشيء نفسه في سورية، ووصل الأمر حتى إلى حدّ اعتبار موسكو محاور شريك، بل أن واشنطن لهثت خلف التنسيق معها، وحتى التماهي مع خططها العسكرية والسياسية، خاصة فيما يتعلق بتجاهل اتفاق جنيف نصّاً وروحاً ومحاولة فرض تسوية جديدة تعيد تعويم أو تحديث ما للنظام على الطريقة الشيشانية.

من هنا تريد أنقرة تحسين العلاقات مع موسكو لتتفاهم معها مباشرة فيما يخص سورية، وملفات إقليمية أخرى. وتركيا تعتقد أن عودة العلاقات إلى طبيعتها واستئناف التبادل الاقتصادي سيخفف حتماً حدة العداء، ويلطف من مواقف موسكو الثأرية، تحديداً فيما يتعلق بالكيان الكردي شمال سورية الذي لا ولن تقبل به أنقرة بأي حال من الأحوال، كما لن تقبل أيضاً بفكرة تعويم النظام أو الالتفاف على بيان جنيف نصّاً وروحاً مع الانفتاح طبعاً على جدول زمني أو عملية سياسية مرنة، ولكن دون التنازل عن الثوابت أو الخطوط المتمثلة برفض تقسيم سورية وكسر المعارضة و الاستعانة بالإرهابيين لمواجهة تنظيم داعش الإرهابي أو إعادة تأهيل النظام وكأن شيئاً لم يكن.

اقتصادياً، تريد أنقرة الاطمئنان على واردات الغاز الروسي إليها بسعرها الحالي المخفض، وتعرف أنها لن تستطيع الاستغناء التام عن الغاز الروسي قبل عامين أو حتى ثلاث أعوام، وتؤمن أن ملف الغاز سيكون قاعدة أو أساس متين لعلاقة اقتصادية راسخة تميل في مصلحتها بمعنى أنه خارج قصة الغاز يميل الميزان  التجاري لصالح تركيا التي تصدر الخضروات الفواكه المواد الغذائية، ومواد التصنيع الأولية، وتعمل شركات المقاولات والخدمات التركية أيضاً على نطاق واسع في روسيا.

اقتصاديا أيضاً تسعى أنقرة أيضاً لاستعادة السواح الروس البالغ عددهم نحو ثلاثة ملايين ونصف تقريباً - بمعزل عن السعي لاستقطاب العرب والإيرانيين أيضاً - والاقتناع أن السياحة الروسية مهمة وضخمة اقتصادياً، واستراتيجياً. أيضاً لجهة تمتين العلاقات وتقويتها وتخفيف حدة العداء بين الجانبين.

وعموماً تعتقد تركيا أن واشنطن ستمضي قدماً في سياسة الانكفاء عن المنطقة، أو حلّ مشكلاتها أي كان الرئيس الأمريكي القادم، حتى لو تم ذلك بوتيرة منخفصة أو أقل بروداً ولا مبالاة، مما فعله ويفعله الرئيس أوباما، وهي ترى أن حالة الفراغ الأمريكي أدّت إلى عودة روسيا كلاعب إقليمي ودولي مهم، ولا مصلحة لها في القطيعة بل في أفضل العلاقات معها.

تريد روسيا من جهتها ولأسباب سياسية اقتصادية واستراتيجية. أيضاً تحسين العلاقات مع تركيا.

حيث تشعر القيادة الروسية أنها تورطت أو على الأقل لا تريد التورط، أكثر، وتسعى من أجل تسوية في سورية مع حفظ مصالحها قدر الإمكان. وتريد الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع دول الجوار، وتركيا تحديداً لأنها أيضاً لاعب مهم في سورية، ولكي تخلق أيضاً حالة توازن في مواجهة إيران التي تتوتر أو تسوء العلاقات معها نتيجة لتناقض متزايد ومستمر في النظرة الى واقع ومستقبل النظام.

إلى ذلك تعرف موسكو أن حلف الناتو بصدد تشديد الضغوط عليها ومحاصرتها، ومنعها من التمدد غرباً، خاصة بعد قراره بنشر قوات في جمهوريات البلطيق بالتزامن مع تشغيل مشروع الدرع الصاروخي شرق أوروبا في رومانيا وبولندا. وتبدو على يقين من استمرار الحصار والعقوبات الاقتصادية ضدها في الملف الأوكراني، وهي أي روسيا تعرف أن تركيا تتمتع بموقع جيوسياسي مهم، وتتمنع أو لا تريد الانخراط الجدّي في السياسة الغربية ضدها، وتأخذ مسافة واضحة منها تحديداً فيما يخص العقوبات الاقتصادية.

أما اقتصادياً فتريد روسيا الاطمئنان إلى حصتها من الغاز في السوق التركية، خاصة مع تحسن العلاقات بين أنقرة وطهران، والتطبيع المنتظر مع تل أبيب، ووجود احتمال جدي لاستيراد الغاز الإسرائيلي، وحتى مد خط أنابيب لتصديره أي الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية والاحتفاظ بفرص تنفيذ ما يعرف بخط أو مشروع السيل التركي الذي ينقل الغاز الروسي إلى وسط وشرق أوروبا، عبر الأراضي التركية  لضمان حصة مهمة ومعتبرة  في السوق الأوربية، كما لمنافسة مشروع تاناب - ينقل الغاز الأذري تركيا، وأوروبا- أو أي مشروع محتمل مماثل بين أنقرة وتل أبيب.

اقتصادياً، أيضاً ارتدت العقوبات الاقتصادية الروسية ضد تركيا، بأثر سلبي على الاقتصاد الروسي في مجالات مختلفة، حيث ارتفعت نسبة التضخم، وارتفعت أسعار الخضروات والفاكهة، وباتت صناعة السيارات الروسية على عتبة الانهيار - تستورد مواد أولية وقطع غيار من السوق التركية - كما تأثر سوق المقاولات والإنشاءات استعداد لكأس العالم 2018، الذي تراهن عليه روسيا لتبييض صفحتها، وتلميع صورتها، وتشعر بضرورة عودة الشركات كما البضائع التركية إليها.

في الأخير يبدو أن الرغبات التركية الروسية في التقارب  تتلاقى، والفرص والمصالح الاقتصادية السياسية الاستراتيجية تتقاطع، والتطبيع يبدو مسألة وقت فقط، كون العمل جاري الآن بهمة ومثابرة على مواجهة التحدّي الأساس وإيجاد التخريجة أو الأسلوب الأمثل لتجاوز تداعيات وأثار حادثة إسقاط الطائرة وتحديد نقطة البداية المناسبة، للانطلاق نحو تحسين العلاقات، وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل الرابع والعشرين من تشرين/ نوفمبر الماضي.

التعليقات (9)

    kk

    ·منذ 7 سنوات 9 أشهر
    الحل الجيد دائما بسيط وهو توجيه دعوة لبوتين لاستضافته 3 أيام كاملة مع تكريمه من دون أي ذكر لحادثة اسقاط الطائرة (كانت روسيا تقول لتركية انا قوية وعليكي احترامي وتركية اجابت وانا قوية وعليكي احترامي )وبذلك لا تضطر تركية ممثلة بالسيد اردوغان للاعتذار ولن تصر روسيا على الاعتذار لأنه سيكون عناد وبما ان الطرفين ينتظرون فلا داعي لطول الانتظار

    لو

    ·منذ 7 سنوات 9 أشهر
    يا فلسطيني خبرنا عن الحب بين تركيا و جارتكم شو عن العلاقات الحميمة ولو على حسابكم

    اسماعيل سليم

    ·منذ 7 سنوات 9 أشهر
    احسنت استاذ ماجد تحليل منطقي جدا ----اتمنى كل الخير لتركيا --- احييك على مواقفك الرائعه

    عادل الشمالي

    ·منذ 7 سنوات 9 أشهر
    مقال جميل وواقعي, ولا تلام الحكومية في تركيا إن عملت لصالح شعبها وهذا لب مهام الحكومات الديمقراطية

    كردي

    ·منذ 7 سنوات 9 أشهر
    روسيا لن تنسى لتركيا مواقفها .. هل نست امريكا إغلاق تركيا لأجوائها عندما ضربت العراق .. ؟

    عبد القادر بوشارب/الجزائر

    ·منذ 7 سنوات 9 أشهر
    أردغان يهمه مصلحة وطنه وشعبه لأنه منتخب بإرادة شعبية أما الرئيس العربي فهمه مصالحه الشخصية أولا وأخيرا والأوطان تذهب إلى الجحيم هذه هي الحقيقة المرة التي نعاني منها نحن العرب.

    موريس

    ·منذ 7 سنوات 9 أشهر
    لقد بنت المعارضة السورية مواقفها على الباطل و دماء السوريين خدمة لمصالح دول و كل ما يبنى على سينهار بل شك كلما تبدلت مصالح تلك الدول . كانت تراهن هذه المعارضة الهشة و الغرة على السلاح المريكي و جشها الجرار على غرار ما فعلت في العراق و ليبيا و كما يحدث الان في مكان اخر . و لكن سرعان ما تبدلت الامور و دخل السلاح الروسي الجد المتطور و الذي يهابه اكثر الجيوش في العالم لما له من قدرة تدميرية لا يعلمها من بني البشر اكثر من الامريكيين فيما تصور الكثرون على ان الدب الروسي مريضا قد يموت في اي وقت راه ا

    طارق الدليمي

    ·منذ 7 سنوات 9 أشهر
    هل تستفيقوا يا عرب؟؟؟ حقيقة المعركة الطاحنة على ارض وارواح الامة . دوافعها واسبابها وكذب شعاراتها...

    لي لي هاني

    ·منذ 7 سنوات 9 أشهر
    روسيا بتعمل لمصلحتها حقها هذا يوضح عدم رد الحاسم روسيا من تركيا
9

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات