بريطانيا.. وقع الفأس على الرأس

بريطانيا.. وقع الفأس على الرأس
يتوجه الناخبون البريطانيون اليوم للإدلاء بأصواتهم في استفتاء مصيري، هو الأهم في تاريخهم الحديث، حول البقاء في عضوية الاتحاد الأوروبي أو الخروج منها. فالنتيجة ستكون لها تداعيات كبيرة على مستقبل بريطانيا ومركزها في أوروبا وفي العالم. والمتضرر في حالة التصويت بالخروج لن يكون الاتحاد البريطاني وحده، لأن شظايا القرار ستصيب أوروبا كلها، وقد تؤدي إلى دفع العالم نحو فترة من الاضطرابات المالية والاقتصادية في وقت حرج.

المفارقة أن هذه المغامرة لم تكن ضرورية أصلاً، لولا الاعتبارات والحسابات الحزبية الضيقة التي تحكمت في قرار الاستفتاء منذ البداية، ولعبت دورًا كبيرًا في مساره وحملاته. فرئيس الوزراء ديفيد كاميرون وعد في عام 2013 بتنظيم الاستفتاء في محاولة لاحتواء اليمين المتشدد داخل حزبه قبل انتخابات عام 2015.

كان اليمين المتشدد يقود وقتها تمردًا داخل الحزب مستغلاً موضوع الهجرة، ومصعدًا حملة التشكيك والعداء ضد الاتحاد الأوروبي، مدعومًا في ذلك من قطاع كبير من الصحف البريطانية ذات التوجه اليميني والشعبوي. وتزامن ذلك مع إحساس كثير من النواب المحافظين في البرلمان بالقلق من صعود حزب الاستقلال اليميني المتطرف (يوكيب)، وتخوفهم من أن ينجح في انتزاع دوائر انتخابية منهم باستخدامه لحملات الشحن ضد المهاجرين، وضد الاتحاد الأوروبي.

كاميرون رمى ورقة الوعد بتنظيم الاستفتاء حول البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي إذا أعيد انتخابه في 2015، ونجح في المغامرة الوقتية بأن أحرز المحافظون فوزا كبيرا مفاجئا في تلك الانتخابات. لكن ما لم يتوقعه هو أن تنقلب حساباته رأسا على عقب، ويتحول المد من جديد بعد الانتخابات لصالح اليمين المتطرف المعادي للاتحاد الأوروبي وللهجرة. ونتيجة لذلك فهو يواجه اليوم تبعات أخطر مغامرة يقوم بها، وسيخسر الكثير بسببها، سواء صوت البريطانيون بالخروج من الاتحاد الأوروبي أو البقاء فيه ومحاولة إصلاحه من الداخل. فعلى الرغم من أنه أعلن عدة مرات أنه لا ينوي الاستقالة إذا هزمت حملته الداعية للبقاء في الاتحاد، فإن الرأي السائد أنه سيخسر منصبه إذا خسر الاستفتاء وسيجر معه أيضًا حليفه وخليفته المحتمل وزير الخزانة جورج أوزبورن. وليس سرًا أن زعيم حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي بوريس جونسون، عمدة لندن السابق، يخوض هذه الحملة وعينه على زعامة المحافظين ورئاسة الوزراء.

كاميرون سيخرج من مغامرة الاستفتاء خاسرًا، حتى لو نجحت حملة «البقاء» في استفتاء اليوم، فهو لن يكسب اليمين المتطرف الذي يشعر بأنه عزز موقفه، كما أنه سيكون خسر الكثير أمام الجناح الآخر المعتدل، الذي يشعر بأن حسابات الاستفتاء كانت خاطئة، وأنه كان من الأفضل مواجهة اليمين، بدلاً من محاولة «شرائه» مؤقتًا بمناورة الاستفتاء. لقد «وقع الفأس على الرأس» كما يقولون.

لكن إذا كان كاميرون مسؤولاً عن مغامرة قرار الاستفتاء، فإن الإعلام البريطاني، أو أغلبه المصنف بالشعبوية واليمينية، يُعتبر مسؤولاً عن النفخ المستمر منذ أكثر من عقدين في مشاعر العداء للاتحاد الأوروبي، واللعب على ورقة الهجرة. ولأن هذا الشق من الإعلام هو الغالب في الساحة، فإن صوته كان الأعلى، وتأثيره هو الذي أسهم في تأجيج المشاعر وجعل بريطانيا تقف اليوم على حافة طلاق مع الاتحاد الأوروبي عواقبه خطيرة وتكاليفه باهظة. وتكفي الإشارة هنا إلى أن دراسة أُجريت لرصد وتحليل ما نُشر في الصحف البريطانية من مقالات وموضوعات متعلقة بحملة الاستفتاء، وجدت أن نسبة 82 في المائة منها كانت مؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

أجواء الشحن وتأجيج الكراهية واللعب على المشاعر القومية، هي التي قادت بلا شك إلى الجريمة الإرهابية التي راحت ضحيتها قبل أيام النائبة البرلمانية العمالية جو كوكس المؤيدة بقوة لحملة «البقاء». فالقاتل كان يردد، وهو يطلق الرصاص على كوكس ويوجه لها طعنات ويركلها وهي على الأرض: «الموت للخونة.. الحرية لبريطانيا». الجريمة النادرة في بريطانيا دقت نواقيس الخطر لما أفرزته هذه الأجواء، وما يمكن أن تقود إليه في المستقبل إذا استمرت. وتأكيدًا لهذه المخاوف فقد أعلنت نائبة عمالية أخرى هي إيفيت كوبر أنها تلقت تهديدًا عبر «تويتر» بقتل أولادها وأحفادها، إذا لم تتوقف عن حملتها المؤيدة لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.

بريطانيا إذا صوتت اليوم لـ«البقاء» فإنها تكون قد تفادت كارثة اقتصادية يحذر منها غالبية الخبراء ورجال الأعمال والمؤسسات المالية والاقتصادية الكبرى، لكنها ستحتاج إلى وقت وجهد لمعالجة آثار وشروخ حملات التأجيج والشحن. أما إذا صوتت لـ«الخروج» فإنها لن تواجه العواقب الاقتصادية فحسب، بل تبعات صعود اليمين المتطرف، واحتمال تفكك «المملكة المتحدة»، خصوصًا إذا وجدت اسكوتلندا في هذه النتيجة فرصة للمطالبة باستفتاء جديد حول استقلالها.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات