وماذا عن الأجيال المتروكة في العراء؟

وماذا عن الأجيال المتروكة في العراء؟
يفقد السوريون يوماً بعد يوم إحساسهم بالزمن، لقد قفز أطفال سنة 2011 على الترتيب الزمني الطبيعي، وبات وعيهم أكبر من أعمارهم، وكذلك صار شباب تلك السنة المفرقية كهولاً!، ووفقاً لهذه التحولات، بات فقدان الذاكرة قصيرة المدة مرضاً يعاني منه الجميع، فكل يوم ثمة شيء يسقط منها، ويضيع في زحمة التفاصيل، ولم يعد غريباً على أي واحد منا أن يسهو، وينسى لوازمه الشخصية، ولاسيما مفاتيح منزله، أو جهاز هاتفه المحمول، وكذلك بات علينا أن نذكّر بعضنا بالمواعيد، فجميع السوريين ينسون، وأمسى محظوظاً ذلك الذي يستطيع أن يبقي ذاكرته مشدودة، فتسعفه، ولا تخذله..!

ولكن ما يطمئن في حالنا جميعاً، نجده في سلامة الذاكرة بعيدة المدى، التي تكتنز خبراتنا والقضايا التي عايشناها لزمن طويل، فباتت تفاصيلها ملتصقة بنا كالاسم، والجغرافيا، والتاريخ، فنحن لا ننسى أن لنا وطن، وأن هذا المكان الذي عشنا تفاصيله مذ ولدنا، يمر الآن بأقسى مراحل تاريخه الحديث، وأن ما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا من قهر واستلاب عاشوه بدورهم دون أن يستطيعوا تغييره، بات من ماضينا بعد أن قامر السوريون بكل ما يملكونه من أجل ألا تستمر حياتهم خانعة ذليلة، ولهذا لم يتغير موقفهم مما يحصل معهم، فهم يعرفون أنه ضريبة الرغبة بالحرية، والكرامة والعدالة..!

من التفاصيل التي لن تسقط من ذاكرة السوري حتى مماته، أنه لم يعش يوماً حراً في وطنه، فمن ولد في سنة الوحدة مع مصر بات الآن يقترب من الستين من عمره، ومن ولد مع انقلاب البعثيين وتسلمهم الحكم في سوريا هو الآن في سن الخامسة والخمسين، بينما بات مواليد سنة استيلاء الأسد الأب على السلطة في سن السادسة والأربعين، أما من أتوا بعد وصول الأسد الابن فوضعهم هو الأقسى، لأنهم يعيشون ذروة المأساة، ويتنكبون في يومياتهم مسؤوليات كان من المفترض ألا يعيشوها في هذا الوقت، وأن يتركوها إلى مابعد عقد أو أكثر من أعمارهم..!

هذا حديث قد يبدو بعيداً عن السياسة، ولكن ما يجري الآن في حيوات السوريين ولاسيما يوميات هؤلاء الفتية الذين بتنا نراهم في عوالم القهر والموت، يعيدنا إلى ما تختزنه الذاكرة طويلة المدى، فإذا كانت الأجيال السابقة لم تعش الحرية يوماً ما، فإن هؤلاء الذين يعيشون ضريبة الحصول عليها، يخوضون في كوارث وفي مآسٍ، تجعلهم يتأرجحون على الحواف الحادة من كل شيء، ويغوصون في منزلقات الصراعات السياسية والعسكرية، كما يعيشون جروح النزوح، وشظف دروب اللجوء، وفاقة الآباء وهم يحاولون حفظ الكرامة، وغير ذلك من التفاصيل..، فهل يدرك هؤلاء أن ما يعيشونه الآن سيرافقهم طيلة عقود قادمة؟ وقبل هذا هل يدرك الفاعلون في المشهد السياسي والميداني، أي دروس يتلقاها هؤلاء؟

في لجة ما يجري في المنافي القريبة و البعيدة هناك جيل كامل من الأطفال السوريين بات علينا أن ننظر في حاله، وفي تكوينه، وفي الآفاق المحتملة أمامه، وكلما أجلنا ذلك فإننا نخطوا خطوة إضافية في الفاقد البشري الذي سنعيش تبعات جهله وعدم تأهيله علمياً في المستقبل..!

نصف عقد وأكثر هو الزمن الذي غاب فيه مئات الآلاف من الأطفال السوريين عن المدارس، وبذات الوقت هي المدة التي كانوا يتلقون فيها دروساً حياتية، تجعلهم بعيدين عن المسار الصحيح الذي ينبغي أن يمضوا فيه لكي يمسكوا أدوات مستقبلهم، وكذلك في هذا الوقت كله، لم نسمع أو نشاهد أو نقرأ عن مشاريع قامت أو يتم التحضير لها من أجل استعادة كل هذا الكم من الأطفال إلى مقاعد الدراسة، كما يبدو أن أحداً لم يفكر بالمسؤولية الوطنية السورية عن هذا الاستحقاق الكبير، إذ تُرك الموضوع للدول المستضيفة للاجئين، ولم يخل الأمر من محاولات قوى سياسية محددة الاستئثار بهذا الملف، مطوعة إياه ليصبح متوافقاً مع أجندتها، لتعمل عليه بشكل جزئي، في هذا المنفى أو ذاك، جاعلة منه بوابة لتقسيم السوريين، بدلاً من أن تعمل مع غيرها من القوى السياسية والمجتمعية لاعتباره بوابة لرؤية سوريا موحدة وغير قابلة للتقسيم..!!

في لحظة ما كان هناك أربعة مناهج دراسية مختلفة يتم تدريسها للطلبة السوريين، بين الداخل السوري وخارجه، ورغم كل ما يعنيه هذا من انعكاس للنزاعات السياسية على المسألة التعليمية، فإن الكارثة الأكبر تأتي من الفاقد في التعليم أي غياب الأطفال عن المدارس، والخسارات المادية الناتجة عن هذا الأمر، والتي أظهرت غير دراسة أرقاماً تقريبية لها تفصح عن كارثة استراتيجية سيكون لها تداعياتها المستقبلية، وبما يؤثر على السوريين جميعاً لعقود قادمة..!

لم يعش السوريون طيلة سنوات الاستبداد على ذاكرتهم فقط، بل عاشوا على أمل كبير بمستقبلهم، ولهذا لم يتخلوا عن التعليم، وكانت سوريا واحدة من أهم البلدان التي تصدر الطاقات البشرية المؤهلة دائماً للاندماج في أرقى أسواق العمل، ولكن بقاء ملف التعليم على ما هو عليه حالياً، سيعيد سوريا سنوات إلى الخلف، فتكتمل أضلاع الكارثة: نظام مستبد يدمر ولا يبقي، ومعارضات منشغلة بحسابات الربح و الخسارة محدودة المدى، وواقع تنتابه المؤثرات والتدخلات والمصالح، وفي وسط المثلث ثمة أجيال تكبر، دون خطط تنموية أو استعدادات واضحة لاستحقاقات مستقبلها، طبعاً إن بقي لها منه ما يستحق التفكير..!

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات