لكن هذه الدولة فجأة أثرت أن لا تحمي رعاياها في وقت يحتاجون منها أن تكفيهم على الأقل شر محتلين جدد، فتحول من حارب لإقامة دولته زاهدا فيها يرفع مقام الهرب والمناورة على مقام المقارعة، فأصبح غير بعيد أن نرى قوات سوريا الديمقراطية "الوحدات الكردية" داخل منبج، وليس بعيدا أن تُفتح لها الأبواب لدخول المدينة وغيرها من مدن شمال وغرب حلب، بعد أن عبرت الفرات مدعومة بطيران التحالف الدولي وبقوات أميركية على الأرض وضع أفرادها على أكتافهم شعار الوحدات الكردية، ومباركة بتصريحات رجب طيب إردوغان، لكن على حساب من تتقدم الوحدات؟
تتقدم الوحدات على حساب ذات "الدولة الإسلامية" بحدودها الثابتة منذ قرابة العامين بعد أن كانت تسيل، وتتمدد بشكل لافت للنظر، وهي التي نشأت على أكتاف ثورات شعبية في الإقليم، وعلى أنقاض مجتمعات انهارت بفعل الطائفيين الذين حولوا البلاد إلى جحيم لأهلها (وهنا كان دائما المسحوق هم "سنّة" هذه البلاد) في العراق وسوريا ولبنان وما كان ظهور "الدولة الإسلامية" سوى نتاج يصح القول إنه طبيعي في الحالة العراقية التي ساهم نوري المالكي وعصابات إيران في كل المخاض الذي أدى لولادتها بعد أن كانت تنظيما عراقيا يبايع القاعدة، ويتشكل من عراقيين، وانتقل التنظيم إلى سوريا وانضم إليه كل طالبي المجد، والجنان في قتال "الكفار"، سوريا التي فعل فيها بشار الأسد وطائفته وإيران ما فعلوا وكانت المناطق التي دخلها التنظيم قد تحررت وقتها فعلا من قبضته لكن وحشية التنظيم واستراتيجية الرعب التي انتهجها مكنته منها، ولا يُنكر أن هناك ثمة من اعتنق فكره مصلحيا أو طوعية، وأمن بمشروعه، وثمة من تحالف معه خوفا، إلى أن أصبح قوة تتقاسم البلاد مع الأنظمة "العدوة" في سوريا والعراق والثوار "الأعداء" في البلدين.
ثبتت "الدولة" أركانها إلى أن بدأت الحروب تُخاض عليها من كل مكان، وهي تخوض حروب التمدد في كل مكان أيضا، ومع كل تحركاتها تخرج النبوءات عن أجندة من قاد ويقود التنظيم هل هو حليف لنظام الأسد وللمالكي ولإيران أم هو عدو؟
فلا يمكن أن تكون جملة أفعاله تفيد بأي من الاحتمالين، ولا يمكن أن يكون المنطق حاكما لاستراتيجيته لكن الأشهر الأخيرة تشهد نهايته في أماكن وتشهد ثأره وحربه في أماكن، إلى أن أصبح المشهد ضبابيا فلم يعد معروفا حدود الأمن القومي للدولة التي تخسر أراضيها أمام الوحدات الكردية تارة والنظام في سوريا تارة دون معارك، بينما تتنمر في معارك أخرى ضد الثوار، وفي ذات الوقت ترفع بشكل فج شعارات الدفاع عن السنّة وحمايتهم وإقامة دولتهم رغم أنف "النصيرية" و"الملاحدة" و"الشيعة" أولئك ذاتهم الذين تخسر أرضها لصالحهم، وهذا ما ينعكس سلبا على رعايا الدولة المفترضة، التي تشهد أراضيها تهجيرا للأهالي وتنكيلا بهم وهم في الأصل سكانها وباتوا يعتبروا حاضنة معادية لكل المهاجمين ليتذوقوا العذاب مرات على أيدي كل من يختار مناطقهم ليهاجمها، فالفلوجة في العراق التي كانت صامدة على مدى سنوات ضد كل الأعداء أنتجت حالا توافقية بين الأهالي المضطهدين، وعناصر التنظيم ليكونوا جميعا ضد المهاجم المتمثل بالحشد الشيعي العراقي الإيراني، الذي يرفع صراحة راية التصفية للجميع دون تمييز بين أهالي الفلوجة وعنصر مقاتل فكيف للدولة الإسلامية أن تتخلى عنهم الآن لصالح مفترسهم وهل يمكن أن تسلم الفلوجة للمليشيات؟
سيناريو الفلوجة لا نراه في المدن السورية التي كان يحتلها التنظيم كحالة ريف الرقة والحسكة وحلب التي كان يعتبرها جزءا عزيز من دولته وها هو يتركها لكل الأعداء بينما لا يتوانى عن الموت والانتحار في سبيل قرى صغيرة يتنازع السيطرة عليها مع أهلها الثوار السنة في شمال حلب وكأن عناصره يخوضون معاركهم هناك على طريق الجنة، بينما تفعل السياسية المصلحية فعلها في منبج وقبلها تل أبيض وغيرهما وقد يكون بعدهما الباب وحتى الرقة!
وبين حدود الأمن القومي للدولة الإسلامية والمعركة في طريق الجنة يبقى المستباح الوحيد هم العرب السنة في سوريا والعراق وهم دائما أهل البلاد الأصليين فلا نرى القادم من أقاصي البلاد للعيش في الدولة المنشودة يدافع عنها وهو يقاتل حسب نظرية القائلة أن العنصر البشري أهم من الأرض فيترك الأرض وأهلها تستباح للمرة الثانية بعد أن استباحها هو، ويحافظ على عناصره لينتقلوا لمكان أخر وغالبا ما يكون من ذات الصنف أرض عربية سنية أخرى.
التعليقات (9)