حروب "الطوائف" السورية

حروب "الطوائف" السورية
بعد مرور كل هذا الوقت على سيطرة الفصائل المسلحة لمساحات كبيرة من الأرض السورية، ينكشف واقعها عن وضعية لا يمكن مقاربتها بأي نموذج تاريخي سوى حرب الطوائف في الأندلس، إذ يخبرنا المؤرخون أنه منذ إعلان الوزير أبو الحزم بن جهور سقوط الدولة الأموية في الأندلس قرابة العام 422 هجرية، ذهب كل أمير من أمراء الأندلس إلى بناء دويلته الخاصة، التي سيحكمها هو وعائلته.

استدعاء هذا النموذج التاريخي، لا يقوم فقط على التشابه في حالة التشرذم، وفي حالة الارتهان للآخرين، بل يقوم أيضاً على قيام هذه الإمارات على أنقاض مشروع أكبر هو الدولة الأموية، وأيضاً على وجود العدو الخارجي الذي سيقوم هؤلاء بدفع الجزية له وهو مملكة قشتالة التي يحكمها الداهية ألفونسو السادس من أجل تجنب مؤامراته، ومساعيه للسيطرة على مناطقهم!

صحيح أن مآلات الحدث التاريخي الأندلسي انتهت بهزيمة كل الإمارات الأندلسية بعد عدة قرون أمام القشتاليين، في واقعة سقوط غرناطة الشهيرة، إلا أن الدرس التاريخي الذي احتواه الحدث ظل ماثلاً أمام المؤرخين، وأمام الذاكرة العربية كلها حتى أمسى واحداً من الأجزاء المكونة لأسطورة المجد العربي التليد.

ورغم ذلك يبدو أن هذه الأمثولة لم تلتصق بذاكرة أمراء الفصائل المسلحة، والتي سميت بأسماء مستقاة من التراث الإسلامي، في مفارقة لم تغب عن المتظاهرين في شوارع المناطق التي يحكمها هؤلاء، فقد تنازع هؤلاء في غوطة دمشق الشرقية، وذهبت ريحهم، وخسر المحاصرون هناك مساحات واسعة من الأراضي التي كانوا يعتمدون على زرعها كي يعينهم في مواجهة حرب التجويع التي شنت عليهم منذ عدة سنوات..!

ولكن هل يمكن الاكتفاء باستدعاء التاريخ، من أجل قراءة هذا الواقع الذي يتكرر في أغلب المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام؟ أم أننا نحتاج إلى إجراء سلسلة من التحليلات المناطقية من أجل تبيان الأسباب التي تجعل من الفشل مصيراً محتماً لكل المحاولات التي جرت لخلق إدارة بديلة عن سلطة النظام؟!

الذهاب إلى محاولة تبيان ما يجري في أغلب المناطق السورية، حتى وإن بني ذلك على تحليل مناطق مركز، لن يكون بعيداً عن التشابهات المذكورة التي تجمع بين حرب الطوائف الأندلسية وحرب الطوائف السورية، فالفصائل المسلحة إسلامية كانت أم لم تكن، متشرذمة. وحتى الكبرى منها تحتوي في بنيتها وفي تكوينها بذور الشقاق، إذ يمكن لحادثة بسيطة أن تفجر الصراع بين أجنحة هذا الفصيل، بينما يمكن لخلاف فقهي أن يفجر معركة بين أفراد فصيل آخر، كما يمكن لخلاف حول ممر إمداد أو تجارة وقود أن يتسبب بحرب بين عائلتين تجمعهما راية واحدة!

وفي ذات الوقت لا يمكن الحديث عن استقلالية قرار لأي من هذه الجماعات، فكلها ودون استثناء يتم الاستحواذ على قرارها من قبل الممولين، أو الداعمين، فضلاً عن تحكم الدول الإقليمية، وكذلك القوى العظمى بها إن كان بشكل مباشر عبر غرفتي "الموك" أو "الموم" التي كانت تقوم بتنسيق عملية الدعم التقني والعسكري، أو بشكل غير مباشر عبر التهديد بإضافة الخارجين عن سياساتها إلى قوائم الإرهاب العالمية. كما أن بعض هذه الفصائل لا تجد في الكثير من الأحيان حلاً لما يمارس عليها من تضييق وحصار سوى أن تذهب إلى إبرام هدن مع قوات النظام في مناطقها، قد تكفل لها الاستمرار مرحلياً بانتظار تسوية نهائية.

وبالإضافة إلى ما سبق لا تغيب أيدي النظام وحلفائه من إيرانيين وروس عن العديد من الحروب التي تندلع بين بعض الفصائل هنا أو هناك، وقد لا يكون قيام بعض الفصائل بتطبيق سياسات منفرة للبيئات الاجتماعية التي تحكمها سوى استجابة لسياسة التوجيه عن بعد، والتي تعني فيما تعنيه أن يقوم البعض بممارسات لا تخدم أحداً سوى عدوه.!

وقبل هذا وذاك، كل هذه الفصائل وجدت في سياق الواقع وشرعت وجودها على الأرض تحت شعارات الثورة، ولكنها ومع تقادم الوقت، وتنامي النزعات الخاصة لديها، باتت تقوم على أنقاض مشروع الثورة، وبما يشبه في المقاربة التاريخية أنقاض الدولة الأموية في الأندلس، تلك التجربة التي تتغنى بها عواطف الحالمين بمستقبل يقارب أمجاد الماضي..!

الخروج من هذه المقاربة الأولية، إلى رؤية الواقع كما هو يحيلنا إلى سؤال يقول: هل يمكن لمثل هذه التركيبة التي تقوم عليها هذه الفصائل أن يفضي إلى نتائج مختلفة؟

من المؤسف أن يكون الجواب هو النفي، إذ إن التجارب التي خاضتها هذه القوى طيلة السنوات السابقة أثبتت دائماً عدم قدرتها على العمل مع بعضها، ضمن إطار يجعل منها قوى عسكرية بديلة تتكفل القيام بمهمتين أساسيتين هما الدفاع عن المدنيين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وكذلك إدارة هذه المناطق، بما يكفل للسكان مقومات المعيشة الأساسية والتي تجعلهم يصمدون في خيار البقاء على الأرض.

وفي المقابل، كان من الممكن المراهنة على عملية فصل بين الشق المدني وبين مثيله العسكري، بمعنى ترك الإدارة للمدنيين، والجبهات للعسكريين، ولكن هذه الفصائل ذاتها كانت ومازالت ترفض هذا الخيار وتعمل ضد قوى المجتمع المدني، وتحاربها فضلاً عن تجريمها لها بتهم شتى، فهي تستعدي عليها الجمهور بتهمة العلمانية، وتضيف على ذلك اتهامات أخرى كتعاونها مع الغرب الكافر.. الخ. وقد وصلت حد المواجهة بينها وبين قوى المجتمع المحلية في العديد من المناطق حد الصدام المباشر كما يحصل حالياً في معرة النعمان وكفرنبل في ريف إدلب على سبيل المثال لا الحصر..

وهكذا وبعد خمس سنوات وعدة شهور من بداية الثورة السورية، يتبدى المشهد في المناطق التي تحكمها هذه الفصائل عن واقع سيء، تسببت فيه هي ذاتها، وبات إصلاحه أكبر من رغبات المراهنين على وجود الحكومة السورية المؤقتة في الداخل، إذ لا يمكن البناء على أرضية مخلخلة، تحكمها الحروب والمنازعات بين قوى نسيت الثورة، وباتت لا ترى سوى مصالحها ومشاريعها الفئوية.. 

 

التعليقات (1)

    ooooops

    ·منذ 7 سنوات 10 أشهر
    سؤال للكاتب المحترم: أين مكان داعش من كل ما يجري؟ لقد احترنا فأفيدونا يرحمكم الله
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات