عندما يصبح الخَصمُ هو الحَكَمُ

عندما يصبح الخَصمُ هو الحَكَمُ
خرج وزراء خارجية (مجموعة العمل الدولية لدعم سورية) بجملة من القرارات في فيينا من أبرزها الاتفاق على اتخاذ إجراءات ضد أي طرف من أطراف القتال في سورية يخرق الهدنة بشكل متكرر، وتتمثل هذه الإجراءات باستثناء هذا الطرف من ترتيبات وقف القتال والحماية التي تكفلها، ويعطي هذا الاتفاق الحق للمجموعة باتخاذ الإجراءات المناسبة دون العودة لأي طرف دولي آخر.

من الناحية النظرية، تُعتبر الهدنة، أو ما يحلو للبعض وصفها بـ (وقف العمليات العدائية)، أمر مطلوب وضروري وتمهيدي لأي حل سياسي، ومطلب لكل السوريين الذين يعانون الأمرين من الحرب، ومن صواريخ النظام وبراميله المتفجرة العشوائية، وهي في نفس الوقت شرط من شروط المعارضة السورية للعودة لطاولة مفاوضات مؤتمر جنيف.

أما من الناحية العملية، فإن هذا القرار يحمل في طياته ثغرتين مهمتين، الأولى أنه عمومي لا يستند لآليات لمراقبة الهدنة ولا لضوابط لتثبيت التهمة على من ينتهكها، والثانية أنه يعيد أمر التقييم واتخاذ قرار العقوبات بحق المنتهكين للهدنة للمجموعة الدولية وليس لمجلس الأمن الدولي.

من نافل القول أنه لا يمكن تثبيت هدنة وتحديد منتهكيها إلا بمراقبين منتشرين في كافة المناطق المتوترة في سورية، محليين ودوليين من ذوي الخبرة، تساعدهم أدوات لوجستية عالية الفعالية، ودون ذلك فإن النظام السوري وحلفائه سيتهربون بسهولة من أي مسؤولية عن الخروقات، وسيتهمون دائماً المعارضة المسلحة بها، ومن المؤكد أن روسيا ستسارع لاتهام المعارضة بكل خرقٍ حتى لو تم بأسلحة لا تمتلكها هذه المعارضة كسلاح الطيران، وستدّعي ـ دون أن يطرف لها جفن ـ أن صور أقمارها الاصطناعية (السرّية) تؤكد ذلك، كما فعلت قبلاً حين استخدم النظام السوري السلاح الكيميائي في ريف دمشق قبل نحو ثلاث سنوات واتهمت المعارضة بإطلاق صواريخ كيميائية على نفسها.

أما الأمر الآخر، أي العودة إلى وزراء (مجموعة العمل الدولية لدعم سورية) لتحديد الإجراءات التالية وربما العقوبات، فإنه يُعمِّد المجموعة الدولية كسيدة نفسها، وصاحبة قرار فوق دولي فيما يتعلق بالمسألة السورية، ويدفع مجلس الأمن للدرجة الثانية في الأهمية، ويُهمّش دوره ويُعطّله، ويُكرّسه كمنظمة لا لزوم لها.

منذ الإعلان عن الهدنة أو (وقف الأعمال العدائية) في 27 شباط الماضي، وثّقت المعارضة السورية قيام النظام السوري بأكثر من ألفي خرق لهذه الهدنة، وأكّدت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن 93% من إجمالي الخروقات قام بها النظام السوري، وارتكب النظام أكثر من 30 مجزرة منها 13 في حلب وحدها، واستهدف طيرانه الحربي بصواريخ فراغية سوقاً للخضار بمعرة النعمان وآخر بكفر نبل بإدلب راح ضحيتهما نحو 70 سورياً، كما قصف مدينة حلب ودَمّر مستشفيات ومنشآت صحية تشرف عليها منظمات دولية، واستهدف طيرانه أيضاً جسر الشغور و‏البشيرية وجدراياً وكفرموس وكفرعويد وبنش وخان الشيح والديرخبية ودير العصافير وإدلب ودوما وأرياف درعا واللاذقية ودمشق وغيرها، ورغم كل هذه المجازر والإنتهاكات للهدنة ظل الروس يُصرّون على أن النظام بريء وهم أيضاً أبرياء، بل وضحايا لأسلحة المعارضة السورية، ولم يستطع، أو بالأحرى لم يرغب، أصحاب المجموعة الدولية بوضع حد لهذه الخروقات.

حمت روسيا النظام السوري سياسياً بعد ارتكابه العديد من المجازر خلال السنوات الماضية، واستخدمت الفيتو لمنع قرارات أممية تدينه أو تدفعه لوقف استخدام آلته الحربية المُدمّرة ضد المدنيين، وغضّت الطرف عن تلك التي ارتكبها الإيرانيون وميليشياتهم اللبنانية والعراقية في سورية، ومن الصعوبة بمكان الاقتناع بأنها ستكون فاعلة وحيادية الآن في موضوع تحديد الجناة ومرتكبي خرق الهدنة، اليوم أو في أي وقت لاحق.

يهرب الروس والأمريكيون من فشلهم بفرض مجرد هدنة هشّة ومتواضعة ومؤقتة، انتهكها النظام في معظم مناطق سورية، إلى إعلان أكبر، هدنة دائمة راسخة أو وقف شامل لإطلاق النار في سورية، يتجاوز بكثير قدرتهم على المراقبة والتقييم على الأرض، وربما يأتي هذا الهروب كرد فعل على عجزهم عن تنفيذ الشروط التي وضعتها المعارضة السورية للعودة لطاولة المفاوضات.

لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون الخصم هو الحكم، فروسيا مشتركة للعمق بالعمليات القتالية و"العدائية" في سورية، وتقصف المدنيين حالها كحال النظام، وتستهدف المعارضة المتشددة منها والمعتدلة والرخوة، ومع هذا تريد المجموعة الدولية أن تضعها بموقع الحَكَم والمُقرّر بموضوع تحديد المسؤول عن خرق الهدنة، وهذا دون شك استهتار بالمسألة السورية برمتها.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات