سيلفي والمستقبل خلفي

سيلفي والمستقبل خلفي
لم تكن كنانة  تلك (الإعلامية) التي اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعية بخبر التقاطها سيلفي مع جثث قتلى لا أحد يدري من هم ولا كيفية مقتلهم وماهية المعركة، طبعاً لقد قيل لتلك الاعلامية إنهم ارهابيون، أو ربما كانت هي برفقة الجنود ساعة قتلهم، و كلا الأمرين لا يبرران التقاطها لذلك السيلفي الشهير الذي ينتهك كل محرمات البشرية التي تعارفت عليها الانسانية منذ فجر الحضارة وصولاً إلى يومنا الحالي.

في مسرحية أنتيجون لسوفوكليس يشتعل الخلاف بين أنتيجونة و الملك كريون بسبب رفض الأخير دفن أخيها الذي وبحسب رأي الملك لا يستحق أن يعامل معاملة تشبه معاملة البشر، وذلك لأنه تمرد عليه، فيترك جثمانه مسجى في البراري كي يراه الأهالي ويرتدعوا، بينما تصرخ أنتيجونة بشراسة في وجه الملك من أجل اتمام العرف الذي تعارف عليه اليونانيون القدماء والذي يتضمن ضرورة دفن الموتى  احتراماً لكرامتهم الإنسانية.

هذا ما كان عليه حال التشريعات البشرية منذ 2500 سنة تقريباً ، طبعا لن نتطرق الى التشريعات الدينية المعاصرة والتي تتلخص في جملة واحدة ( إكرام الميت دفنه ) ولكن أهمية مسرحية أنتيجونة تكمن في صرخة الأنثى الحرة طلباً لتطبيق معايير الإنسانية التي يجب على جميع المتحاربين والمتحازبين أن يحترموها ، ضمن أي خلاف أو حرب أو إقتتال.

ولكن مالذي يفرق أنتيجونة عن كنانة  ، أهو الزمن الفاصل ،أم الجغرافيا. أم هو التاريخ.

إن جوهر مبدأ أنتيجونة هو سعيها الحثيث على ألا يكون مصير أخيها بعدم الدفن سابقة يبنى عليها التعامل مع كل متمردي المستقبل أصحاب الرأي المختلف ، بينما لا تتطرق كنانة مطلقاً لموضوع المستقبل ، كل ما يهمها هو تلك الرؤية الضيقة المغرقة في التشفي والانتقام من أجساد أضحت بالنسبة إليها أشياء مجردة ، دونها أي بعد إنساني أو عاطفي او أي شيء يمت للعواطف بصلة.

هي تتعامل مع الأجساد المتراكمة والمتكومة خلفها ، كما تتعامل مع الصخور أو الآثار أو ربما أسوار العدو الذي كانت تقاتله ، متناسية أبسط حق من حقوق الإنسان القائل إن الميت تسقط كل تهمه و كل إساءاته ويجب أن نحترم حياته السابقة بإكرام دفنه ، وعدم التمثيل المادي أو المعنوي بجسده .فحتماً لتلك الأجساد قصص و اقارب و محبين و علاقات مرتبطة ومتشعبة بعشرات الآلاف من الناس وكما هي ومن برفقتها من الجند لدى تلك الأجساد أحلام و آمال و دموع و ربما ابتسامات لا تشبه ابتسامتها في السيلفي.

 ولربما أن لتلك الصورة السيلفي، المغرقة في الذاتية وفي اللحظوية أن تبني أحقاداً ستجد طريقها إلى المستقبل ، ألا يكفي القتيل موته ، ألا يكفي القاتل أنه أنهى خصمه من الوجود مادياً ، وهل يجب إنهاءه معنوياً.

وبماذا تختلف كنانة عن داعش،  تلك التي تدعي محاربتها وشن الحروب للقضاء عليها، فكلا الطرفين يستخدمان الإعلام في التشفي والتشهير و التأثير على الخصم.وكلا الطرفين لا يقيم لمشاعر عائلات الخصم أي قيمة بفعلته تلك ، وكلا الطرفين لا ينظر للمستقبل بتاتاً بصفته امتداداً للحاضر الذي يعيشه وبالتالي وجوب الانتباه لفكرة أن ما تزرعه أيدينا اليوم سيأكله فمنا غداً.

أنتيجونة كانت تستقرئ المستقبل وترى أن الوقوف فوق الأجساد الميتة غلط، ولا يحدثنا سوفوكليس في مسرحية أنتيجونة عن شقيقين يخوض احدهما حرباً ضد الملك والاخر مدافعاً عن الملك ..و بعد أن تضع الحرب أوزارها يأمر الملك بدفن من قاتل معه من الأخوة وبرمي جثة الآخر لوحوش البراري ، يحدثنا عن قوانين تمسك المجتمع حتى في الحروب وفي الموت ، و لكن سوفوكليس لم يحدثنا عن سلالة الأخين الشقيقين  ، وما سيحدث لهما.

لم يكتب شيئاً عن مشاعر الأبناء والأحفاد ، عن الأفكار والأحقاد ، عن المستقبل الذي سينتج عن أفعال ذلك الحاكم  ، ولربما ترك الأمر لنا أن نفهم صرخة أنتيجونة في سبيل إحقاق الحق ، ولربما لم تصل الصرخة تلك إلى (الإعلامية ) كنانة لأن أذنيها كانتا ربما مسدودتين بضجيج أحقاد الماضي ، وطبول الثأر،ربما كانت التسمية الصحيحة لتلك الصورة هي : سيلفي والمستقبل خلفي.

التعليقات (2)

    ابو حيان

    ·منذ 7 سنوات 11 شهر
    سمعنا عن انحرافات نفسية كثيرة وفظيعة انتجت افعال ابسط ما يقال عنها بأنها فظيعة ومن هذه الفظائع تلك التي قيل عن اشخاص مارسوا الجنس مع الاموات ربما لانهم لم يستطيعوا ان يفعلوها معهم وهم احياء اوربما لم يقتنعوا بانهم ماتوا او او من التاويلات النفسية والتحليلية الكثيرة ولكن هل تشبه فعلة اولئك فعلة كنانة علوش ربما لانه من حيث المبدأ فعل لا يصدر عن اشخاص اسوياء ان تمارس فعل مع الاموات بنفس الطريقة التي تمارسها مع الاحياء فهذا فقدان للاهلية التي من خلالها يتم بناء الشخصية وبناء المواقف.

    سونيا واكد

    ·منذ 7 سنوات 11 شهر
    مقال عظيم ، شكرا لكم
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات