ذاكرة لبنانية لسجن تدمر

ذاكرة لبنانية لسجن تدمر
عذراً إن بدا علي بعض الإمتلاء والترهل فأنا منذ خرجت من السجن مازلت لم أشبع.

شعرتُ وأنا أستمع إلى هذه الجملة بأن شيئاً ما في داخلي قد انقلب بالكامل، صحيح أنها ليست المرة الأولى التي أنصت فيه الشهادات ناجين من معتقلات وممارسات تعذيب لكن لا أدري لم شعرت بانقباض مضاعف وبشيئ من الخزي حيال ما سمعته.

وقائل هذه العبارة هو "علي أبو دهن" وهو معتقل لبناني سابق في سجن تدمر السورى السيئ الذكر وكلماته هذه قالها بعد أن شاهدت أنا ومجموعة عرضاً خاصاً لوثائقي "تدمر" لمونيكا بيرغمان ولقمان سليم وفي هذا الفيلم ظهر علي راوياً تجربته المريرة في السجن ومعيداً تمثيلها ليشارك بعد العرض الخاص في نقاش عن الفيلم الذي قدم بشكل معبر يوميات سجناء لبنانيين عانوا سنوات في هذا المعتقل الصحراوي الذي وصف بأنه من الأسوأ في العالم.

مضى عقد ونيف على خروج علي من السجن لكنه كما قال لا يزال لا يشعر بالشبع فأي جوع هذا الذي لا يستكين بعد أكثر من خمسةعشر عاماً على انقضائه.

وقبل أن يقول علي هذه الجملة أمامنا كنا قد رأيناه في أحد مشاهد الفيلم وهو يقطع بيد متأنية بيضة مسلوقة بالخيط الى ثمانية أجزاء هو عدد السجناء الذين عليهم تقاسمها، بدت يده بطيئة وهي توازن مكان استخدام الخيط في القطع للتحقق من تقسيم البيضة بشكل متساو لا يظلم أحد من الجوعى وأن كانت القطعة لا تسمن بتاتاً.

نعم، كانت كسرة بيض هي فطور المعتقل فهل نستكثر على علي أنه لا يزال جائعا،  لم يكن ممكناً ونحن نتابع لهفة سجناء على لقمة بيض أن لانستحضر صور معتقلين سوريين ماتوا جوعاً وتعذيباً فيسجون النظام السوري والذي في ذمته آلاف الضحايا والجوعى،  واليوم أتت شهادة علي ومعه مجموعة مثله في هذا الفيلم لتعطي معنى مضاعفاً للمعاناة الفردية حيال قهر المعدة والروح والجسد.

ليست الروايات التي وثقها فيلم "تدمر" خارج سياق المعاناة التي رواها ووثقها ناجون من سجون النظام السوري لكن ما استوقفني هنا هو أن الحكايات هي لمعتقلين لبنانيين في سجن بعثي وهذه لحظة كشف مهمة خصوصاً أن تاريخ النظام السوري في بعده اللبناني لا يزال خارج النقاش الفعلي التوثيقي في لبنان في ظل انقسامنا الحاد كلبنانيين.

مثل هذا الفيلم يطرح نقاشاً لم نقدم عليه عن لبنانيين أيضاً هم ضحايا كذبة "شعب واحد في بلدين" كما كنا نُلقن في حقبة السيطرة السورية على لبنان لكننا أقصيناهم عمداً عن دائرة نقاشاتنا واهتماماتنا بل كان هناك نفي أصلاً لوجودهم لذا فما أن أفرج عن بعضهم عام ٢٠٠٠ في إطار حملة العلاقات العامة التي خاضها آنذاك بشار الأسد حتى شعر الجميع في لبنان بارتباك حيال حقيقة أن هناك أشخاصاً ظهروا من التاريخ ليقولوا لنا أن النظام الشقيق آنذاك كان يسجن ويعذب ويقتل مواطنين من بلدنا.

الاقتراب من تجربة معتقلين لبنانيين سابقين في سجون سورية أمر لم نألف إجهاره بشكل هادئ وتوثيقي في الإعلام اللبناني من خارج سياق تسجيل المواقف والتشاطر الدعائي والسياسي. 

تقول أرقام غير رسمية أن هناك ما يفوق الـ600 لبناني اعتقلوا على يد النظام السوري في الحقبة التي أعقبت انتهاء الحرب وسيطرة نظام البعث على لبنان مطلع التسعينيات.

 ومع خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005 برزت مطالب معرفة مصير هؤلاء تماماًكما المطالب بمعرفة مصير مفقودي الحرب اللبنانية لكن في الحالتين يقف الإنقسام السياسي اللبناني دون أن يسلك أي من هذه المسارات طريقاً واضحاً، إنه ميراث الحكم الأسدي الذي سبب ذوباناً للشعب السوري تحت وطأة البراميل والكيماوي والسكاكين وطرق الموت الكثيرة وهو ميراث ضرب عميقاً في لبنان أيضاً بحيث كان يمنع الحديث عن معتقلين وسجناء وضحايا هذا النظام في لبنان.

الناجون من معتقل تدمر أعادوا بنائه في مكان ما في لبنان ليمثلوا عذاباتهم فيه وليقولوا لنا أن هذا النظام اللئيم لم يترك لنا ميراثاً يتعدى السجون والقتل والموت.

التعليقات (1)

    عبد الله الشامي

    ·منذ 7 سنوات 10 أشهر
    هذا غيض من فيض . لجنة دولية سورية ...سجن تدمر لا يصلح حتى ﻹيواء الحيوانات .وهذا بعد تجهيزه لزيارة اللجنة ،تدمر لم ولن تجد لها مثيلا في الماضي والمستقبل ،تدمر سجن آل اﻷسد وكفى ...
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات