من الشتيمة إلى الإعدام المعنوي؛ إعادة إنتاج الاستبداد..

من الشتيمة إلى الإعدام المعنوي؛ إعادة إنتاج الاستبداد..

لا شيء يوقف هذا الاندفاع الأهوج نحو استباحة الجميع، وتحويلهم إلى مادة للوك والتشهير والتخوين سوى تحطيم العقلية الاستبدادية التي تجرعها السوريون لعدة أجيال حتى باتت جزءاً من وعيهم و(لا وعيهم) في آنٍ معاً.

تخليق فضاءات الحرية في العقل ليس أمراً هيناً، بل هو مكون أصيل من مكونات الثورة التي طمحت إلى تغيير النظام المستبد، وتأتي صعوبته، من عدم اكتمال مسارها، وأيضاً من تلك العوارض التي أحاقت بها، مثل محاولات الاستيلاء عليها من قوى مصابة بالاستبداد بنيوياً ، وتأتي قبل كل شيء من انعدام الحياة الآمنة والمستقرة التي لا تخالجها الحروب والأزمات..

لو تأملنا في واقع السوريين حالياً لرأينا كيف يحدث أن ثورة ما تزال دون انتصار، يقوم ثوارها بنحر بعضهم عبر سلسلة مستمرة دون انقطاع من عمليات الإعدام المعنوي، وكيف أن المخالفة في الرأي تستدعي قبل أي نقاش إطلاق الأحكام التقييمية التي تذهب صوب التخوين والعمالة..

هنا لا نتحدث عن واقع الثورة المسلحة التي ما انفكت تتشظى إلى فصائل وكتائب وألوية وفرق وجبهات..الخ، تمارس الحروب فيما بينها، ولا تتحد إلا في الملمات، ولا نتحدث عن القوى السياسية التي تحولت إلى صالونات سياسية، لكل واحد منها أجندته وارتباطاته الإقليمية و الدولية التي تمايزه عن غيره، وتجعله في صف مختلف عنه، حيث تعيش أيضاً منازعاتها، واختلافاتها، وحروبها السرية والعلنية، رغم أنها تجمع على سلسلة من الأهداف المتماثلة، تبدأ باسقاط النظام الاستبدادي، وتنتهي بضرورة أن يكون المجتمع السوري تعددياً، ديموقراطياً..!!

هنا نتحدث عن الثائرين الذين شكلوا بطاقاتهم ونشاطهم طيلة السنوات السابقة، الجسد العام للثورة، و قاموا بفرض أنفسهم "رأياً عاماً"، يؤخذ بالحسبان، لا يمكن تجاهله، ولا يمر أي تفصيل من التفاصيل دون أن يكون لهم بصمة في رفضه أو القبول به..

هذا الجسد، لا يمكن تعداد أفراده، فهو غالبية الشباب السوري الذي ذهب في خيار الثورة، وتوحد في مخاضاتها، و أحيا بهجاتها، كما عاش كل مآسيها. هؤلاء هم الذين رفعوا شعارات التضامن بين المدن السورية الثائرة، وعملوا على إغاثة النازحين، وساندوا الثورة المسلحة، وعملوا على إنشاء الحياة المدنية في المناطق المحررة، وهم من استبعدتهم قوى الاستبداد المستجدة، وهم من واجه التطرف، وتم تطفيشهم على يد استبدادين، استبداد النظام في طور توحشه، واستبداد التطرف في طور محاولته السيطرة على حياة السوريين..

هؤلاء هم من لوّن وسائل التواصل الإجتماعي بالأصفر بعد مذبحة الكيماوي في غوطة دمشق، فكان لحضورهم وفعاليتهم الأثر الأكبر في دفع العالم إلى الاهتمام بما حدث، وهم من دأب على التذكير بأن الثورة لم تحدث كي يتبدل الطغاة، فأعادوا إلى الشوارع علمها وشعاراتها، بعد أن كانوا ومازالوا رقيباً لا يرحم على القوى السياسية التي ادعت أنها تمثل الشعب السوري..

هؤلاء الشباب هم أنفسهم، ورغم كل ما فعلوه وسيفعلوه لثورتهم، حتى تصل إلى غايتها، مابرحوا يذهبون إلى أقصى حالات الرفض، وإلى أعلى درجات الانفعال، صوب أي حادثة أو قصة، وهذا أمر طبيعي في واقعٍ ثوري متفجر، يعيش حرباً دولية ضده، إضافة لحربه ضد قوى الطغيان والاستبداد، ولكن الذهاب إلى أقصى درجات الرفض والقبول لا يولد منطقاً  عقلانياً في نقاش أي تفصيل سياسي أو ميداني، بل يولد تطرفاً يماثل ويقابل التطرف الآخر، فيصير مثله، ويحاكيه في شكل تعاطيه مع الآخر المختلف، وهكذا يقوم جزء كبير من هؤلاء الشباب -بطيب أو سوء نية- بالتعريض و تشويه صورة من يخالفه في الرأي و بالممارسة، ليصل في الختام إلى "الإعدام المعنوي"، الذي يهدف إلى تدمير من لا يشبهه، ونفيه عن ساحة الفعل، ووفقاً لهذا تعيد هذه الممارسة إنتاج الاستبداد، ولكنها تمنحه ومن خلال نافذة الثورة مشروعية وقبولاً طالما أنه مزين بشعاراتها..!!

هنا لا يمكن تجاهل مسألتين، الأولى وهي ضرورة أن يقوم السوريون بالنقد الدائم لكل القوى السياسية، ولكل المسارات التي تفضي إليها تجاذبات الواقع، وإشكالياته، وفعالياته. ولكن توسيع المدارك سياسياً، يجب أن يؤدي إلى ضرورة احترام وجهة نظر الآخر المختلف، وإدانة سياسته، لا تجريمه، وإعدامه معنوياً..

والثانية وهي الالتفات إلى أن الكثير ممن يتطرفون ضد الآخر، إنما يستندون في تشهيرهم به في الكثير من الأحيان إلى دعاوى تبنى على تفاصيل غير دقيقة، أو تم تلفيقها، وغالباً ما يتوجه الهجوم إلى حيوات الآخرين الخاصة، دون احترام للأخلاق المجتمعية العامة التي تحمي الخصوصية، والتي دمرها النظام طيلة عقود.

ما يحمي السوريين من إعادة إنتاج الاستبداد، هو رفضه أينما تجلى، حتى وإن جاء عبر جملة بسيطة، يتم تناقلها، على صفحات التواصل الاجتماعي، ولنتذكر أنها ثورة، وليست حفلة سباب وشتائم.

التعليقات (1)

    ابو مالك

    ·منذ 8 سنوات شهر
    انه المازق الحقيقي التي وقعت اطراف الثورة بها منذ اللحظات الاولى لاعلان الثورة مما كان اهم سبب للانقسامات ومما زاد الطين بلة عدم وجود عمل مؤسساتي متكامل له راس وقاعدة ووجه اعلامي تثقيفي لصناعة جيل ثوري يعي اهدافه وهو ذاهب الى اين ويعي المعنى الحقيقي لدولة المواطنة الديمقراطية حتى لا يتوه بين الشعارات الكثيرة ولقطع الطريق على اي دخيل اقليمي او دولي يخرج الثورة عن سكتها .
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات