لا تدع أمي لي المجال لأظهر لها عضلاتي السياسية أو تحليلاتي لما يحدث في بلدنا البعيد، أراها تبكي كل يوم، تدعو على بشار الأسد وتشتم حسن نصر الله.
حسن نصر الله، ليس ذات الـ"نصر الله" الذي كانت تجلس بعد كل صلاة عام 2006 للدعاء له، وليس ذات الـ"نصر الله" الذي كانت تضع صورته في صالون المنزل بدل أن تضع صورة جدي أو خالي أو اياً من المتوفين من أهلها أو أهل أبي، هذا الـ"نصر الله" مجرم القرن، قاتل أطفالنا، وهو ذاته بذات العباءة وذات اللدغة التي كانت تعشقها قبل سنوات والتي لا يهدأ لسانها اليوم عن الدعاء عليه وعلى لدغته وعباءته "دجال" تقول أمي، فأبتسم وأقول في سري "أخيراً اقتنعتي".
أمي المثقفة لا يعنيها عيد المرأة، لا تنتظر معايدات من أحد، تسألني "من وين اخترعوا هالعيد.. هلأ وقتو"، فأجيبها ساخرة "انتو جيل متخلف، نحن بيعايدونا وبيجيبولنا ورد أحمر بعيد المرأة"، أمي لا تقتنع بالكلام.
بعد أن بدأت الثورة، عاشت أمي كما غيرها من الأمهات السوريات، الخوف والقلق والرجاء من أولادها الابتعاد عن المخاطرة، وأمي التي لا تهتم بعيد المرأة، ولا يعنيها عيد الفالنتاين، تتجاوز بعض المثقفين في آراءها، تتكلم عن سوريا بقلب يغص بكل آلام الكون، تبكي عندما تتذكر شباب عائلتها الذين غاب معظمهم إما استشهاداً أو اعتقالاً، وإدمانها على نشرات الأخبار لم يضعفه ابتعادها عن سوريا، وإنما زاد من حدته، ولنشرة الأخبار مع أمي نكهة مختلفة، فالنشرة التي تقطر دماً سورياً، تتحول لتصبح مكللة بالأدعية والاستغفارات والدموع.
أمي التي تجاوزت بعض المثقفين بآراءها تعيش الإحساس بالذنب في كل لحظة أنها لا تزال على قيد الحياة بينما شبابنا يموتون، يوقظها قلبها أحياناً فتهرول إلى الأخبار لتتأكد من مناطق الموت لهذا اليوم، تنتظر صوت أخي الذي يعيش في دمشق، وعندما تسمعه تتنهد وبارتياح وتقول "يا ويل قلبي على الأمهات اللي راحوا ولادها".
أمي التي تصلي خمس مرات يومياً وتصوم رمضان ولا تكف عن الدعاء والاستغفار بدأت توجه دعواتها لعدو ثالث "داعش" وتضحك بألم "ما أكثر أعدائك يا سوريا".
عندما اعتقلوا أخي في بداية الثورة، خرجتُ للتفتيش عنه وجلست هي مع غطاء صلاتها تنتظرني عند النافذة، وبعد أن فقدتُ الأمل بمعرفة مكان أخي، عدت إلى المنزل بمشاعر مختلطة لدرجة أصبت فيها بالخرس أمام أمي.
بعد أيام عرفنا أن أخي قيد الاعتقال، ولم تجف دموع أمي، أمي التي لا يعنيها عيد المرأة، أمي التي ربت 7 أخوة بنفس الطريقة التي تقترب من المثالية، أمي التي كنت أتشاجر معها مرات عدة في اليوم نفسه، أمي التي أخذت عنها كل عاداتها التي كنت أنتقدها فيها، أمي التي ثابرت على الاستماع لراديو لندن بعد وفاة ابي كل يوم، أمي التي ذهبت لزيارة قبر أبي ولتخبره أن ابنه قيد الاعتقال وليس قيد السجن، أمي التي كانت تدأب على مراقبتنا خلال الثورة ظناً منها أنها يمكن أن تحمينا بمراقبتها.
يمكن للعالم أن يستخف بأي شيء، ويمكنه أن يقف طويلاً قبل أن يصدق بطولات الثورة السورية، ولكن نساء سوريا اللواتي لا يعرفن عيد المرأة "أمي واحدة منهن" خارج خارطة الاستخفاف.
التعليقات (4)