ثمة تجارب تاريخية لثورات كانت تتخذ قياداتها ونخبها بحكم الضرورة المنافي الصديقة مركزاً لها، لكن مصدر قوتها الأساسي كان يتأتى من مشروعيتها الثورية التي تكتسبها من شعوبها أولاً، وتواجه بتلك الشرعية الموحدة عسف المنافي ولعنة تحولاتها، بيدَ أن التحديات الكبرى التي واجهت الشعب السوري، والتعقيدات الجمّة التي أحاطت بالثورة السورية، ما أسبغ عليها وضعية فريدة عن تلك التجارب، ليس فقط لأنها كانت بمواجهة معسكر واسع من الأعداء وهي في حالة تشرذم مزمنة، وإنما بفعل تنازع قواها العسكرية والسياسية على مناطق النفوذ والسيطرة، في ظل وطأة تلك الصراعات الداخلية ودورها في تآكل مفهوم شرعيتها التمثيلية.
لا يمكن تبسيط مأزق الثورة على أهمية تلك العوامل الذاتية المؤسسة له، دون بحث مفاعيل المنفى وتأثيراته العميقة على كيانات الثورة ومؤسساتها، فكيف حين يصبح الولاء لحكومات المنافي والاستجابة لضغوطاتها السياسية، قرينة واقعية على مصادرة إرادة المعارضة وقرارها الوطني، والأخطر حين تُكيف قوى المعارضة نفسها على تقبل ذاك الواقع والرضوخ إلى اشتراطاته الصعبة. بأي حال لا يمكن أيضاً فصل تداعيات تلك العلاقة المُختلة على مجتمع اللاجئين في دول المنفى، ولعلّ الهجرة الكثيفة للسوريين من مصروتركيا نحو اوروبا في العامين المنصرمين أبرز دليل واضح على ذلك. بالطبع لا تحجب تلك الحقائق أدوار منافي أخرى مثل لبنان على وجه الخصوص، الذي يتعامل مع اللاجئين السوريين كبيئة معادية، غير مسموح فيها التحرك لنشطاء الثورة الواقعين تحت سيف التهديد الأمني في كل وقت، بينما تقوم السياسة الأردنية على ضبط حدود نشاط المعارضة وفق المنسوب الذي يتوافق مع حساباتها الداخلية والخارجية. في المقابل كشف الدعم الخليجي وهو الأكبر للثورة السورية عن سطوة التوظيف العشوائي وغير المتوازن للتشكيلات المستهدفة بالدعم، مما أنتج تكتلات وأطر موالية لمن يوفر لها مصادر الدعم، على حساب تصليب الإجماعات الوطنية بين مختلف مكونات ومؤسسات الثورة ، وأثبت تشكيل الهيئة العليا للتفاوض قدرة تلك الدول على تبني سياسة توافقية تنعكس ايجاباً على أداء المعارضة لو أرادت ذلك.
يشكل واقع الائتلاف الوطني والحكومة السورية المؤقتة المثال الأكبر على حالة التجاذب بين الدول الراعية، وتأثيراتها السلبية في إضعاف تلك المؤسسات المتواجدة في المنافي، والقائمة على منطق المحاصصة السياسية بين قواها وتياراتها، والذي يتغذى بدوره على منطق الاستخدام النفعي للدول الأكثر تحكماً في قراراتها، سواء بحكم ضغوط التمويل أو فروض الجغرافية السياسية، ولم تفلح تلك المؤسستان في كسر تلك المعادلة أو التخفف من صيغتها الكابحة. المثير للمفارقة المعبرة عن مشاعر الخذلان، أن مألات الثورة في الخارج كانت تترجم مألات الدول الصديقة في مواقفها من الواقع السوري، فيما كانت لعنة المنافي تسطو على ما تبقى من ساحات الثورة خارج الوطن.
لعلّ ترامي أوصال قوى الثورة هو التعبير المأساوي عن أشكال متعددة من تشتتها السياسي والعسكري والجغرافي، يعادله ويفيض عنه شتات جمهورها المعذب بين ثنائيات الموت في الداخل وآلام التشرد في المنافي، وفي مثل هذا الواقع المثقل بالهموم والتحديات، لا مناص من العمل الدؤوب على بناء مرجعية قيادية موحدة للثورة السورية، تعيد إحياء وتنظيم الروابط العضوية لقوى الثورة من جهة، وتوليد ديناميات التواصل الحي بين الداخل والخارج، بما يحصن صمود الشعب السوري حيثما كان من جهة ثانية. ينبئ مشهد عودة المظاهرات الأخيرة في القرى والمدن السورية بعد خمس سنوات من الحرب الضروس لإنهاء الثورة، عن روح عارمة تأبى الانكسار والاستسلام، وتزرع الأمل مجدداً بقدرة السوريين على تحقيق أهدافهم التحررية رغم كل الفظاعات التي عايشوها وقسوة المنافي.
التعليقات (0)