ولكن عن أي سوريا يتحدث الروس، وعن أي أنموذج للدولة الاتحادية يجري الحديث هنا؟.
سوريا التي يعرفها العالم على شكلها الحالي، كانت بلداً اتحادياً في العام 1922 وذلك على يد الانتداب الفرنسي الذي أعلنها على أساس فيدرالي بين دول قام هو بتأسيسها: (دولة دمشق) و(دولة حلب) ودولة (جبل العلويين)، قبل أن يعاد إنتاج (الدولة السورية)، عام 1925، حتى تأسيس (الجمهورية السورية الأولى) عام 1930، خلفاً للاتحاد الفيدرالي السوري. لتشمل حدود سوريا، حدود (دولة دمشق) و(دولة حلب) بما فيها مقاطعة الجزيرة، دون حكومتي اللاذقية والسويداء. اللتين عاودتا الانضمام لسوريا في العام 1936.
استدعاء الوقائع التاريخية من أجل إجراء التناظر بين حدث ينتمي للماضي التاريخي، وبين آخر يقدر له أن يكون فعلاً مستقبلياً، لا يمكن أن يجرى عبر إسقاط ما بينهما، ففي هذا التخلي عن التاريخ شروع في جعل تحولات الواقع المؤدي لهذه النتيجة، مجرد مسألة تنتمي لعالم التجريد الذهني!!.
لنتذكر قبل أي شيء أن الانتداب (الاحتلال الفرنسي) هو من صنع (الاتحاد الفيدرالي السوري) في العقد الثالث من القرن العشرين، وأن السوريين هم من دفع واقع بلادهم صوب الانتقال إلى (الجمهورية السورية). كما أن الدستور الذي وضع في العام 1930 اعتبر سوريا "جمهورية نيابية عاصمتها دمشق ودين رئيسها الإسلام"، وأن "البلاد السوريّة المنفصلة عن الدولة العثمانية هي وحدة سياسيّة لا تتجزأ، ولا عبرة بكل تجزئة طرأت عليها بعد الحرب العالمية"..! ولنتذكر أن أغلب الدساتير التي أقرت لاحقاً كانت تعتبر هذا البند -ورغم التشذيبات التي لحقت به- أمراً بديهياً غير قابل للمناقشة، كما أن (محكمة أمن الدولة) سيئة الصيت، التي صنعها البعثيون لتحل مكان المحاكم العسكرية الاستثنائية في العام 1968، جعلت من مسألة وحدة الأراضي السورية البند الملهم لعدد من التهم التعسفية التي كانت توجه لمعارضي النظام، فالسوريون يتذكرون بمرارة أن العديد منهم؛ عرباً وأكراداً وسرياناً وأشوريين، وطيلة عقود، وجهت لهم تهمة "الانتماء إلى تنظيم سري واقتطاع جزء من أراضي البلاد وضمها إلى دولة أجنبية"، لمجرد مطالبتهم بالحقوق الثقافية للمجموعات الإثنية والقومية التي تعيش على الأرض السورية..! ما حوّل مسألة "وحدة سوريا" التي دفع السوريون ثمناً باهظاً من أجل تثبيتها في الثورات التي سبقت الاستقلال، إلى مشجب في رأس كثيرين، عُلقت عليه الجرائم التي خلقت التفرقة والتباعد بين أفراد المجتمع السوري متعدد الأعراق والقوميات، بدلاً من النظام الاستبدادي، الذي كان ومازال السبب المباشر في كل ما حدث ويحدث طيلة العقود السابقة.
وفي السنوات الخمس الماضية أثيرت كثيراً فرضية التقسيم كحل من الحلول المحتملة لإنهاء حكم نظام الأسد لمساحة كبيرة من الأراضي السورية التي فقد جيشه السيطرة عليها، كما أن الحديث عن فرضية "سوريا المفيدة" لم يهدأ طالما كان العمل العسكري لقوات الأسد والميليشيات الطائفية يتركز على جزء محدد من سوريا، غير أن البيان المشترك الصادر في فيينا الذي اتفقت عليه 17 دولة إضافة إلى الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة في الـ30 من تشرين الأول لعام 2015، وضع وحدة سوريا واستقلالها وسلامة أراضيها وهويتها العلمانية في مقدمه بنوده، ليقطع الطريق على النظام، قبل أي قوة سياسية أو عسكرية تحاول العمل على تقسيم سوريا.
وبالعودة إلى التصريح الروسي الذي فصّلت فيه قناة (روسيا اليوم) بعد أن تناقلته وكالات الأنباء بشكل مقتضب، ليصبح تأكيداً من ريابكوف يستبعد فيه تطور الأحداث السورية وفق "سيناريو كوسوفو"، ويشدد على "ضرورة وضع معايير محددة للهيكلة السياسية في سوريا في المستقبل، تعتمد الحفاظ على وحدة أراضي البلاد، بما في ذلك إمكانية إنشاء جمهورية فدرالية، خلال المفاوضات السورية –السورية". فإن من الحري بأي متابع لما يجري أن يتوقف عند تصريح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، قبل أيام أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ (24 02 2016) والذي قال فيه: "إنه ربما يكون من الصعب إبقاء سوريا موحدة إذا استغرق إنهاء القتال هناك مدة أطول"..! وليصبح السؤال عن الربط بين التصريحين أمراً مشروعاً، في ظل الإقرار شبه الجماعي بأن الهدنة في سوريا يتم خرقها منذ ساعاتها الأولى وحتى اللحظة.
ولكن، من قال للقوى الدولية والإقليمية بأن السوريين يحتاجون إلى دولة اتحادية فيدرالية؟ وأن هذا الخيار يمثل حلاً لمشكلتهم؟!
قبل سنتين من الآن
واليوم وبعد كل هذه المقدمات التي تلقى هنا وهناك من القوى الدولية التي تنكبت مهمة إيجاد الحل في سوريا، هل يمكن القبول بهذا الخيار من قبل السوريين أنفسهم؟
من الناحية القانونية لا يمكن تعديل وضع الدولة السورية دون قيام جمعية وطنية عامة يجتمع فيها ممثلون عن الشعب السوري بكل أطيافه، ودون دستور جديد تضعه لجنة أو هيئة مختصة، يتم التصويت عليه باقتراع جماهيري، وما إلى ذلك من إجراءات جرى الاتفاق على خطوطها العامة ولحظها في المادة الرابعة من بيان مجلس الأمن الدولي الرقم 2254 بشأن حل الأزمة السورية. ووفقاً لهذا فإن التصريح الروسي الذي يحيل مسألة الفيدرالية إلى جلسات التفاوض بين المعارضة وبين النظام، إنما يضع قضية مصيرية بين يدي طرفين ليسا مخولين بذلك، حتى وإن اتفقا عليها، وأقرا بها.
وبكل الأحوال، وبانتظار الأيام القادمة وما ستحمله من خطوات على الأرض، من جهة ثبات الهدنة، وتقدم العملية السياسية، أو جهة فشلها وتقدم الخطط (ب)، فإن الإعلانات الروسية والأمريكية عن التقسيم والفيدرالية تضع كل القوى السياسية والعسكرية الوطنية أمام استحقاق مفصلي في تاريخ سوريا، يتمثل في عدم السماح بتكرار الماضي الذي فُرض فيه على السوريين أن يعيشوا وفق إرادات الآخرين، قبل أن يُعَمدوا وحدة بلدهم بضرائب كبرى من الدماء والأرواح.
التعليقات (6)