"تحت السما".. ضوء صغير على وجع سوري كبير

"تحت السما"..  ضوء صغير على وجع سوري كبير
وسط جدران متهدّمة تحوّلت إلى دشمٍ، وأعمدة لا تزال شامخة بشموخ أهلها رغم ما يحيط بها من دمار وموت، تنتصب "أم فارس" بين أطلال ما تبقّى من منزلها المنهار، ممسكةً ببندقية آلية لا كرهتها ولا أحبتها، فقط أخيلة أحبائها ونزعة انتقام تؤنس وحشتها الممزوجة بأصوات القصف وإطلاق النار، بعد أن بقيت وحيدة بفقدان زوجها وأولادها جميعاً، لأسباب تشاطرها فيها كُثريات من الأمهات السوريات.

بنصّ بسيط يحمل رسالةً إنسانية كبيرة للكاتبة فاديا دلّة وعين ماهرة للمخرج ماهر صليبي، اعتلت النجمة يارا صبري بطلة العرض المسرحي المونودرامي "تحت السما" خشبة مسرح دبي الاجتماعي، لتجسّد وعلى مدى ثلاثة أيام متتالية حكاية "أم فارس" الأم المكلومة التي فقدت زوجها في غياهب السجون ومن بعده فقدت أبناءها وابنتها الوحيدة على يد "العفاريت الزرق" كما تصفهم بطلة العمل.

عبر سرد ذكريات اختلطت بالدم، بالكره والحب، بالواقع والخيال، بالحقد والتسامح، يحاكي العرض المسرحي "تحت السما" بقصّته البسيطة وأحداثه الكثيرة، الفاجعة التي أحلّت بالسوريين والضريبة التي دفعوها بدمائهم منذ أول صرخة حرية أطلقوها ولا يزالون يدفعونها إلى يومنا هذا. ويؤكد العرض عبر سياقه الدرامي أنّ التوجه إلى السلاح لم يكن خياراً للسوريين بقدر ما هو واقع فرضه النظام على الجميع، بغض النظر عن الانتماء السياسي، كما في حالة ولدي أم فارس الذين قُتل أحدهما وهو يؤدي الخدمة الإجبارية والآخر الذي انضمّ للثوار.

حمل العرض رسائل عديدة، لعلّ أبرزها هي التأكيد على أن السوريين دعاة سلام ومحبّة، فـ "أم فارس" برغم النوائب التي أصابتها بها بفقدان فلذات أكبادها وزوجها من قبلهم، مع ذلك رمت البندقية في آخر المطاف رافضةً أن تطلق النار، إلا أنّ ذلك لم ينجها من رصاصة القناصة التي أودت بها. أما ما أراد أبطال "تحت السما" قوله بهذه الخاتمة، أن القتل هو اللغة الوحيدة التي يجيدها النظام في سوريا.

مزج العرض بين "التراجيديا والكوميديا السوداء" عبر بعض "القفشات" التي دفعت بها الفنانة يارا صبري بين الحين والآخر، وذلك فيما بدا لكسر الحالة السوداوية التي يحملها النص، وقد تضمّنت "القفشات" نقداً لمظاهر سلبية، كانشغال البعض بالتقاط ما يعرف بـ"السلفي" على حساب الحالة الإنسانية. فضلاً عن الإشارة في مشاهد عديدة إلى تخلّي الجيش عن واجباته في حماية الناس وتوجيه بنادقه نحوهم.

ماهر صليبي.. "تحت السما" يحاكي وجعاً إنسانياً صادقاً

الفنان ماهر صليبي مخرج المسرحية، أشار في حديثه لـ"أورينت نت" أن هذا العمل يسلط ضوء صغير على وجع كبير هو الوجع السوري، مضيفاً: "لعلّ وعسى أن تصل هذه الرسالة إلى العالم حتى يعلم أن ما يحدث في سوريا ليس فقط كما يُنقل في بعض وسائل الإعلام، لأن الفن يسلّط ضوء صادق ويبحث عن الحقيقة ليحاكي عن وجع إنساني بغض النظر عن الانتماء السياسي".

واعتبر صليبي أنّ الضريبة التي دفعها الشعب السوري مقابل انتفاضته كبيرة جداً، فالسوريون دفعوا ضريبة دون ذنب بغض النظر عن موقفهم السياسي ، وتساءل صليبي: لماذا يحدث هذا في بلادنا؟.. سوريا لا تستاهل ما يحدث!.

يارا صبري.. "أم فارس" تعكس وجعاً سورياً قديماً متجدداً!

بطلة المسرحية الفنانة يارا صبري، قالت لـ"أورينت نت" إنّ شخصية (أم فارس) التي تعكس وجعاً سورياً قديماً متجدداً، موضحةً أنّ المسرحية ليست للشحن العاطفي، لأن السوريين متشبعون من الناحية العاطفية تجاه مآسيهم، لكن الغرض بالدرجة الأولى إيصال صوتنا لأكبر عدد من الناس ولاسيما من منهم في الخارج ، وكشفت يارا صبري أنّ هناك خطّة  لنقل العرض إلى بلدان عديدة وترجمته للغات أجنبية، وأنه قد تطرأ عليه بعض التغييرات.

وعن الدعاية الكبيرة التي سبقت العرض، قالت يارا صبري إن ذلك لا يعود كون العرض من بطولتها، بل لأن الغرض هو نقل المأساة لأكبر قدر من الناس، الأجانب والعرب وحتى للسوريين في الخارج الذين لم تتوضّح لهم  بعد صورة ما يحدث في سوريا.

وحول الآثار المتوقعة  لعرض "تحت السما" أشارت الفنانة يارا صبري أن الفن يلقي الضوء على الهموم الإنسانية لكنّ الحل ليس بيده. 

وعن أسباب قلّة الأعمال المسرحية والفنية عموماً التي تحاكي الثورة ومعاناة السوريين، أعازت صبري ذلك لقلّة الدعم وضعف الثقافة التنويرية، إضافةً إلى أن الفنان وفق ما تقول لا يستطيع الإنتاج بمفرده في المسرح أو التلفزيون والسينما.

وفي تفسيرها لختام المسرحية بمقتل بطلتها "أم فارس"، قالت صبري إن الخاتمة هي صرخة حق، لأن البطلة برغم رغبتها بالانتقام، إلا أنها لم تستطع ذلك، وقنصها في آخر المطاف هو إشارة إلى أن الطرف الآخر لا يؤمن إلا بالقتل، برغم أن الأم المكلومة اتخذت موقفاً نهائياً نحو السلام لا السلاح.. وهذه إشارة إلى أن المشكلة ليس فينا بل بالطرف الآخر الذي لا يريد السلام ومصر على الاستمرار بالقتل."

في ختام الحديث مع النجمة يارا صبري، سألتها "أورينت نت" عن مدى تفائلها أو تشائمها حيال ما يجري، فردّت قائلة: "لا أستطيع التفاؤل كثيراً، ولكني لست متشائمة.. هناك دائماً أمل بالفرج ولكن متى، هذا ما لا أعرفه".

فاديا دلة.. يارا صبري منحت العرض المسرحي زخماً وقوةً

مؤلفة المسرحية فاديا دلّة قالت لـ"أورينت نت" إن استحضار الحالة الإنسانية في سوريا هو الدافع الأول لها لكتابة النص المسرحي "تحت السما"، مضيفةً أنّ تصدّي الفنانة يارا صبري للعمل منحه زخماً وقوةً مستمدة من قوة الأداء والتجسيد للشخصية.

وعلى الرغم من أنها تجربتها الأولى إلّا أن الكاتبة أكّدت أن جميع مراحل التحضير للمسرحية كانت بالتشاور مع بطلة ومخرج المسرحية، معتبرةً أنّ ذلك دليل على التقدير لتجربتها، والأهم من ذلك بحسب قولها هو الدعم الذي حظيت به من صبري وصليبي. قائلةً: أتوجه من خلالكم بالشكر الجزيل للصديقين ماهر ويارا الذين أحبّا النص واهتما به وقدّماه للجمهور بأبهى صورة.

أما عن رسالة "تحت السما"، فهي وفق ما أرادت الكاتبة التأكيد على محبّة السوريين لبعضهم برغم كل ما حدث، وإثبات أن السلاح لم يكن خياراً يريده السوريون بقدر ما كان وقعاً فرضه العنف الشديد الذي تعاملت به السلطة الحاكمة مع الناس.

"جنّة جنّة" تكلل ختام "تحت السما"

شهد العرض المسرحي "تحت السما" حضوراً كبيراً من السوريين والعرب في دولة الإمارات، وعلى مدى ثلاثة أيام متتالية امتلأت مقاعد مسرح دبي الاجتماعي بجمهور بدا متعطّشاً للفنون التي تحاكي قضيّته وتصرخ بوجعه، وقد بدا ذلك جلياً بترديد الجمهور لأغنية "جنّنة جنّة" في ختام العرض، فضلاً عن التفاعل خلال العرض مع الأداء البارع للفنانة يارا صبري التي تحظى باحترام وتقدير كبيرين في الأوساط السورية، كإنسانة أولاً انحازت للوجع السوري، وكفنانة ثانياً اتخذت موقفاً قلّما شاهدنا في أوساط الفن السوري.

ibIVGtaHBgo

التعليقات (1)

    سوري حر

    ·منذ 8 سنوات شهر
    عمل رائع. نحن فخورون بالفنانين الأحرار أمثالكم و نتمنى لكم دوام التوفيق و التألق
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات