"مواجهة التشظي"، أو معنى أرقام المأساة السورية..

"مواجهة التشظي"، أو معنى أرقام المأساة السورية..
الأرقام في سوريا لم تعد كما هي في  تعريفها المتداول، والذي يقول إنها "أشكال  أو رموز تعبّر عن عدد معيّن أو عن شيء معدود"..! إذ حين يتجاوز حجم المعدود المعدلات الطبيعية، وحين يكون إدراك معنى الأرقام غير ممكنٍ، فإن اللحاق بها وكذلك معرفتها، يصبحان بلا طائل، سوى التداول الخبري الاعتيادي، أو التوثيق في أحسن الأحوال..!

نتذكر كسوريين باستياء القرار الذي اتخذته المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في بداية عام 2014 والذي قضى بإيقاف عمليات حصر قتلى الحرب في سوريا "حتى إشعار آخر"، وذلك بسبب "الوضع السوري المعقد"، وبسبب كثرة الضحايا.

احتج السوريون على القرار، ليس لأنهم رأوا فيه أن المنظمة الدولية تقوم بتسليم السوريين لأقدارهم المفجعة فقط، بل لأنهم يعرفون بأن قتل أي سوري إنما يعني إهدار حياة كاملة، تحتوي على تفاصيل إنسانية، وعلى تفاصيل أخرى تتلخص بفكرة رأس المال البشري، الذي يتم إهداره قتلاً واعتقالاً وتهجيراً، دون أن يحاول أحد وضع حدٍ لعمليات القتل والاعتقال والتهجير، التي بدأها النظام وما انفكت تتصاعد منذ بداية الثورة، وصولاً إلى مرحلة المجازر الجماعية، وانفجارات العنف المتتالية..!

لقد أدرك السوريون ومن قبل قرار المنظمة الدولية أن أي رقم يقال عن عدد ضحايا الصراع، حتى وإن كان يقارب الواقع فعلاً لن يكون مجرد خبر، بل سيكون إشارة إلى كارثة عظمى، ستنعكس عليهم أولاً، وستنعكس على الآخرين ثانياً، فالحيوات المهدورة على يد السفاحين والقتلة، ستجعل الناس أفراداً وجماعاتٍ، يبحثون عن النجاة، والذهاب إلى أمكنة أخرى، يستطيعون فيها متابعة حياتهم، بعيداً عن دوامة العنف التي فرضها النظام بحجة أنه يواجه متطرفين، والتحقت بها مرغمة في البداية، قوى ثورية انتقلت من الحراك السلمي إلى الحراك المسلح، ما أدى إلى وقوع انتفاضة الشعب السوري بين براثن قوى متطرفة (يشك بارتباطها بأجندة النظام ذاته)، أرادت استغلال الثورة لتحقيق غايات أيديولوجية تختلف بشكل جذري عما نادى به الثائرون في العام 2011.

المسألة ليست في الأرقام، بل هي في ما تعكسه هذه الأرقام، فحين تنقل صحيفة (الغارديان) أن حوالي 400 ألف شخص قتلوا خلال "الحرب الأهلية السورية" المستمرة منذ خمسة أعوام، وتردف بأن 70 ألفاً آخرين قضوا بسبب نقص الخدمات الأساسية مثل المياه النظيفة والرعاية الصحية. فإن المعلومة المرعبة هذه والتي تتناقلها الأخبار، ستبقى ناقصة، ليس لأن الرقم غير منطقي كما اعترض البعض الذين قدّروا بأن هذا الكم أقل من الواقع، بل لأنه لا يؤشر إلى المعاني المزدوجة لهذه الخسارة الكارثية للشعب السوري. والتي يمكن أن نطلع عليها حين نكمل القراءة في المسار البحثي الذي قدمها. فتقرير "مواجهة التشظي" الذي استندت إليه هذه الجريدة فيما نشرته، يمكن اعتباره أخطر وثيقة صدرت حتى الآن تتحدث عن النتائج التي حلت بسوريا بسبب صراعات "قوى التسلط الداخلية والخارجية" بحسب (المركز السوري لبحوث السياسات)، الذي أطلق التقرير قبل عدة أيام.

لقد تقاسمت منظمات الأمم المتحدة مع القوى الإقليمية والدولية الصمت منذ البداية، حيال السياسة التي طبقها النظام على أرض الواقع في طريقة تعاطيه مع الثورة، فجميع هؤلاء كانوا يدركون بأن ما يجري طيلة السنوات الخمس الماضية سيؤدي إلى خلخلة بنى المجتمع على كل المستويات، وسيجعل سوريا تصل إلى مرحلة "تجذر التشظي" والتي يصفها الباحثون في التقرير بأنها "حالة من التمزق الحاد في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية (...) فالتشظي أصبح ثقباً أسوداً يحول الموارد المحلية والدولية المادية والبشرية إلى محركات تخريب وفوضى يمكن أن تدوم لمراحل قادمة إذا لم تتم مواجهته قبل أن یترسخ كمؤسسات قابلة للاستمرار".

نظرةٌ سريعة على الأرقام التي يوردها التقرير تكفي لتبيان الأسباب التي جعلت من سوريا 2015 بؤرة لتصدير المهاجرين إلى جميع أنحاء العالم، ومنطلقاً للغرقى في بحار الأرض، وساحة لفوضى الصراعات الداخلية والإقليمية والدولية، إذ أن وضعاً اجتماعياً واقتصادياً كهذا الذي يعيشه السوريون، سيجعل من الحصول على أدوات محلية للصراع أمراً يسيراً، فالبيئة العنفية التي خلقها النظام، بالإضافة إلى تعطيله لأغلب المبادرات السياسية التي هدفت إلى حل الأزمة، وركونه إلى الحل العسكري، كل هذا أوصل سوريا إلى عتبة البلد المنكوب فعلياً، رغم تخرصات إعلامه بأن البلد بخير..

أرقام في الكارثة

وبحسب التقرير الذي رصد التفاصيل حتى نهاية العام 2015 فقد  قدر حجم الخسائر الاقتصادية منذ بداية النزاع حتى نهاية العام  2015 بنحو 254.7 مليار دولار أمريكي، ما يعادل 468% من الناتج المحلي الإجمالي لعام  2010.

ويقدر معدل الانكماش الاقتصادي السنوي بحوالي  4.7% في عام  2015. كما استمر التدهور في قطاعات الخدمات الحكومية والصناعة التحويلية والاستخراجية والمرافق والنقل والاتصالات.

وشهد عام 2015 تراجعاً كبیراً في الاستهلاك العام بلغ 33.1% مقارنة بعام 2014، الأمر الذي يعكس سياسات الحكومة في خفض الدعم، والتي ساهمت في زيادة أسعار المواد الغذائية والخدمات الأساسية.

وانكمش الاستثمار العام بشكل حاد وبمعدل سنوي بلغ  31.8% إذ أعطت الحكومة الأولوية لتغطية الإنفاق العسكري ودفع الأجور العامة.

كما تراجع الاستثمار الخاص بمعدل سنوي بلغ 5% ليشكل مع الاستثمار العام ما نسبته 9.2% فقط من الناتج المحلي الإجمالي.

كما انخفضت الصادرات في عام 2015 بنسبة 20% كما انكمشت الواردات بنسبة 29% مقارنة بالعام 2014، وذلك بسبب التراجع في الطلب الفعال، إضافة إلى الانخفاض الكبیر في قيمة العملة المحلية. ومع ذلك بقي العجز التجاري ضخماً في عام 2015 إذ بلغ 27.6% من الناتج المحلي الإجمالي.

وسجل تراجع عجز الموازنة من 41.2% في العام 2014 إلى 28.1% في عام 2015 مما يعكس استراتیجية الحكومة في زيادة الإیرادات العامة من خلال تطبیق سياسة "ترشید الدعم" التي َ خَفّضت الدعم تخفيضاً كبیراً. إلا أن هذه الاستراتیجية أضرت بالاقتصاد وأسهمت في تعمیق الركود، لأنها رفعت من تكلفة الإنتاج المحلي وزادت الضغوط التضخمية، فساهمت خلال هذه المرحلة في تراجع قيمة العملة المحلية.

واستمرت تداعيات الأزمة بتمزيق الديمغرافية السورية حیث اضطر مع نهاية عام  2015 نحو 45%  من السكان إلى مغادرة أماكن سكنهم بحثاً عن الأمان أو الظروف المعيشية الأفضل. إذ بلغ عدد الأشخاص النازحین داخلياً حوالي 6.36 ملیون نسمة، علماً أن العدید منهم اضطر إلى النزوح مرات عدیدة.

ويقدر عدد اللاجئین الذین غادروا البلاد بحوالى 3.11 ملیون شخص كما هاجر منها نحو 1.17ملیون.

ويقدر معدل الفقر العام بنحو 85.2% عام 2015 وبلغت نسبة من يعيشون في فقر شدید 69.3 من السكان. كما بات نحو 35% من السكان يعيشون في فقر مدقع، غیر قادرين على تأمین الحد الأدنى من احتياجاتهم الغذائية الأساسية.

ويتفاوت مستوى الفقر بین المحافظات ويزداد الوضع سوءاً في مناطق النزاع والمناطق المحاصرة. كما بلغ معدل البطالة 52.9 في نهاية عام 2015، حیث يقدر عدد العاطلین عن العمل 2.91 ملیون شخص، منهم 2.7 ملیون فقدوا عملهم خلال الأزمة، مما يعني فقدان مصدر رئيسي للدخل لحوالى  13.8 ملیون شخص.

تسببت الأزمة في تدهور دلیل التنمية البشرية من 0.631 في عام 2010 إلى  0.443  مع نهاية  2015  ما أدى إلى تراجع ترتیب سورية العالمي على الدلیل من المركز 121 إلى المركز 173 من بین  187 بلداً.

وبحلول نهاية العام 2015  قّدرت الخسارة في سنوات التمدرس (دخول المدرسة من أجل الدراسة والتعلم) بحوالى 24.5 ملیون سنة دراسية، والذي تقدر تكلفتها بحوالي 16.5مليار دولار أمريكي مشكلة خسارة في رأس المال البشري المرتبط بالتعليم.

وتعتبر الخسائر في الأرواح نتیجة النزاع المسلح من الآثار الواضحة والمباشرة والأكثر كارثية للأزمة المستمرة في سورية. فمع نهاية عام 2015 ما يقارب  11.5% من السكان في سورية إما قتلى أو جرحى نتیجة للنزاع المسلح. كما تراجع متوسط العمر المتوقع عند الولادة بشكل حاد من 70.5 سنة في عام 2010 إلى  55.4 سنة في 2015.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات