شيطَنَةُ السوري

شيطَنَةُ السوري

ماذا يعني أن تكونَ مُثقَّفاً و البلادُ تنهار و تحترق؟، ماذا يعني أن تكونَ مُثقَّفاً و الطائرات الروسية تستنهضُ من صفحات التاريخ حالة الأرض المحروقة؟، ماذا يعني أن تكونَ مثقّفاً و الطائفيةُ تختزلُ جوانب الحياة كلها وسطَ صمتِ من نبذوها؟.

ما مِن مُحاوِلٍ لكتابةِ شيءٍ ما عن سوريا إلا و يصطدِمُ بعجز اللغة التي وَسَعت كلام الله في قرآنِه، الأبجديةُ تحتضِرُ و ينزِفُ مُتداوِلُوها و إن كانوا حُماةَ بقائِها في كلِّ مكانٍ و زمان، ماذا يعني أن تكون مثقفاً و أنت تشهد منذ ست سنوات أبطالاً من ورَقٍ يَغزُونَ شاشات الفضائيات ليلَ صباح ليعلنوا قربَ إنتهاء الديكتاتورية التي توالدت و تناسَلَت من بعضها أشكالاً ما كنَّا نتخيَّلُ حدوثَها يوماً و لو في الإفتراض.

مدينةُ إيبر في بلجيكا تعرّضت منذ مائة عامٍ مضت لأول هجومٍ كيماوي في تاريخ استخدام السلاح القاتل، و الشام تأتي في رأس القائمة للمدن التي تعرّضَت لذات الهجوم في سنواتنا الأخيرة، بهذه المقارنةُ بدأتُ حديثاً منذ أيامٍ في أحد المراكز العالمية، خنقتني الكلمات فقلتُ إنَّ ما مِن مُخرِجٌ سينمائي في العالم قادرٌ على تخيُّل هذا السيناريو الذي وصَلَت لهُ البلاد فيما لَو طَلَبَ مُنتِجٌ يملِكُ ميزانيةً مفتوحةً من مُخرِجِ أفلامٍ متخصِّص بسينما الحروب صناعةَ ذلك!.

هي الصورةُ الواضحةُ بالأسئلة العمياء المفتوحةُ على كل احتمالاتِ الإجابات، فالتاريخ يكتبهُ المُنتصرون وتفرِضُ صناعتهُ القوَّة الضاربة، و ميزان العدالة الثابت منذ نشوئهِ، اختلَّ في سوريا و كل ما يتعلَّقُ بها من شبكةٍ عنكبوتيةٍ لا تنتهي عند حدود مدن البلاد.

بينَ المُحاصَرِ و المُحاصِر ضاعت ملفات التفاوض، وحدَهُ شخصٌ واحدٌ كان يعرِفُ أين يسير بينما يتلمَّسُ الآخرون خطواتهم بين الدماء، هو الذي وُلِدَ غارقاً في الدم فأتى بصدفةِ وفاةِ شقيقِهِ - بحادث سيارةٍ – رئيساً لسوريا، سار منذ البداية نحو الهاوية بالوطن و ترك الأبواب مشرعةً للغرباء كي يأتوا مُدجّجين بسلاحِهِم و رغباتِهِم التاريخية بالوجود على أرض الشام، فضاع الجميع بين قيصرية موسكو و ولايةُ فقيه طهران.

لماذا فعلتُم ذلكِ ببلادِكُم؟، لا يوجدُ سوري بالمُطلَق لم يُطرَح عليه هذا السؤال الذي يحملُ الضحيَّةُ فيهِ جُرمَ الفِعل و وقوعِه، الضحيَّةُ التي تمّت شيطنتُهُ ليكونَ قاتلاً مُحترِفاً في عيونِ الآخرين، جولاتُ الدفاعِ عن الضحية المقتول و المخنوق و الغريق و المحروق و الجائع هنا لا تفيد، فالصورةُ النمطيَّةُ التي صدَّرَها النظام الحاكم للآخر أننا شعبٌ لا نستَحقُّ الحياة و هذا سرُّ الصمت الدولي المريع عن الموت الذي داهمَ الأرض السورية و سكنَ فيها منذ سنوات، هي الحيلةُ التي استخدمَ فيها الأسدُ رأس المال السوري لإدانةِ الثائرين بوساطةِ شركاتِ علاقاتٍ عامَةٍ عمِلَت منذ سنوات على تجميل الوجهِ القبيح للديكتاتورية.

الديكتاتورية التي سطَت على أحلامِ البسطاء بعد ثوراتِهِم فأتت مغلَّفةً بإيديولوجياتٍ مختلفة و بأقطابٍ جديدة لم تكن مطروحة من قبل في النسيج السوري، طائفياً و عرقياً و فكرياً و دينياً، و هنا لا بدّ أن أذكرَ روايةً أدبيةً مصريةً حملت عنوان " الخمرُ ما عادت تُسكر أحداً" صدرت مؤخراً في القاهرة للكاتب الشاب محمد الجيزاوي، في تلك الرواية يقلِّبُ الروائي مقطعاً عرضياً للمجتمع المصري منذ سقوط الملكية و حتى اليوم مروراً بكل الثورات و تلك التي اتُّفِقَ على تسميتها ثورات، لا يُخرِجُ الكاتبَ أيَّاً من شخصياتِه- إلا الموتى- من عباءةِ الإرادة الحاكمة في السلطة القائمة، تلك الإرادةُ التي تمثَّلَت بالعسكَر الذين لا يقبلون حاكماً من غيرِ جلدَتِهِم و إن قبِلوا فإنَّ ذلكَ يأتي في سياق البراغماتية الآنية التي تتطلَّبُ الصمتَ لحين استرجاع الإرادة من جديد، تكادُ الحالةُ أن تتطابقَ مع سوريا نظرياً، الحديثُ عن الأدب هنا يقودني للحديث عن رواية " كتيبة سوداء" المرشّحة حالياً في القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لأستاذ الآداب و العلوم الإنسانية محمد المنسي قنديل، في هذه الرواية تلعبُ الصدفة دوراً في صناعةِ الأقدار المرسومةُ قبل ذلكَ بتخطيط الإرادة الحاكمة لشخصياتٍ هامشية عاشت حياتها في أقاصي أدغال النيل و تم بيع الرجال منهم من قِبَل سلطان القبيلة لتاجر سوداني وقعَ في حيلةِ الخديوي الكبير الذي أرغمَهُ على التنازل عن غنائمِهِ من القبيلة مقابل سلامةِ عُنُقِه، الطريق قادَ الأفارقة ليكونوا في كتيبةٍ منسيَّةٍ مِن مصرَ تُحاربُ في المكسيك لتثبيت حُكم النمساوي ماكسيلمان الذي عيَّنَهُ الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث حاكماً هناك ليقطَعَ صِلَتَهُ بالعرش الإمبراطوري في فيينا، القصة المتشابكة في خيوطِها تدفعُ الهامشيين ليكونوا أرقاماً صعبةً خلال أربع سنواتٍ أعقبَت الحرب الأهلية في مدن المكسيك، الحربُ الأهليَّةُ حسبَ التوصيف النابليوني و الثورةُ في عُرف الشعوب التي تطمحُ للتغيير و صناعةِ حُكَّامِها من أبناء أرضِهِم.

هذه الأمثلةُ لأبطالٍ على الوَرَق عاشوا في زمنٍ افتراضي و مكانٍ افتراضي لهُ ارتكازاتُهُ الحقيقيةُ في فضاء السرد الأدبي، تتقاطعُ في خيوطِها مع شخصيات النظام الحاكم في سوريا، تلك الشخصيات التي نبتت في بيئاتٍ غيرِ سويَّةٍ فكانت السُلطَةُ مكاناً و زماناً تُشكِّلُ لهُم حالةَ وجودٍ يدافعون عنها، فتارةً يتذرَّعون بالطائفية و طوراً بالخطَر العِرقي الذي يُهدِّدُ المجتمع ككل!، الديكتاتورية تتشابَهُ في كلِّ زمانٍ و مكان، و التطرُّف الذي ظهر في الشرق بمختلف أقطارِهِ قابَلَهُ يمينٌ متطرِّف يشبِهُهُ في حكومات القارة الأوربية و يمينٌ وصلَ في اقصائِهِ للآخرين حدَّ التهديد بمنعِ و طردِ المسلمين من دخول الولايات المتحدة الأمريكية كما في حالةِ مرشَّحِ السباق الرئاسي إلى البيت البيضاوي دونالد ترامب في واشنطن العاصمة.

التساؤلات التي طرحتُها في بداية الحديث هي ذاتُها الأجوبةُ في تطابقٍ شهيٍّ بين درجات اللغة، فالتناقض الذي قالت عنه العربُ قديماً إنَّهُ وسيلةُ معرفةِ الأضداد، صار اليوم حالةً حقيقيَّةً ليسَ يُنكِرُها العباد، التناقُضُ الذي وصلَ حدودَهُ القصوى في الإصرار على عدم التوحُّد بين الكتائب المقاتلةِ في الشمال و الجنوب السوري على ضفَّةٍ واحدةٍ ضدَّ جيش النظام الحاكم و الميليشيا المُسانِدة له بذات الخندق مع جيش الإحتلال الروسي، ذلك الإحتلال الذي سيدفعُ بالجغرافية السورية نحو التعقيد الاكثر في ظلّ الموت الذي يسكُن حدود البلادِ و مُدُنِها بينما الناجي الوحيد سيكونُ قاتلاً حتماً و ضحيَّةٌ صار اسمها " الشيطان السوري".

التعليقات (2)

    نبلي

    ·منذ 8 سنوات شهرين
    الله يخلي لامه ما بعرف بدو عريس ولا عروس ، كاتب سياسي ولا نجار باطون

    لا عجب من الهزيمة

    ·منذ 8 سنوات شهرين
    لا بارك الله في شعب هجر وطنه بشكل جماعي ليقوم بتسليمه لشعوب أخرى بدل الدفاع عنه.
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات