المأساة السورية وتقويض منظومة الحقوق الدولية

المأساة السورية وتقويض منظومة الحقوق الدولية
 

غياب الإرادة الدولية عن وقف المأساة السورية المروعة، وعجز المجتمع الدولي غير المبرأ من شبهة التواطؤ في استمرار نزيفها، يطرح - بصورة غير مسبوقة - شكوكاً وتساؤلات كبرى، عن معنى وجدوى المنظومة الحقوقية الدولية، التي لم يطبق من قوانينها واتفاقياتها الملزمة، ما ينقذ الشعب السوري، ويدفع عنه مسلسل القتل والتدمير والتجويع والتهجير، الذي فاق بقسوته ووحشيته حدود التصور البشري، عن نظام يمارس حروب الإبادة والإفناء ضد شعبه، عكس منطق حركة التاريخ، التي تتجه منذ الحرب العالمية الثانية نحو القطيعة مع الأنظمة الفاشية والنازية والتوليتارية، وتعد بانتشار ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم.

إذا كان من الجائز القول : أن هناك العديد من القضايا السياسية المعاصرة ، غابت عنها معايير وموجبات العدالة الدولية، ومن أبرزها القضية الفلسطينية، فإن فداحة الكارثة السورية وهول تداعياتها الإنسانية، وتحدياتها الأخلاقية التي وضعت المجتمع الدولي على المحك، كشفت بدورها حجم المفارقات الصارخة، بين تطورات القوانين الدولية الإنسانية واتفاقياتها المتعددة،  على صعيد التقنين النظري في العقود الماضية، ومستوى الياس والإحباط الناجمين عن تعطيل تلك القوانين والاتفاقيات، وعدم نفاذ أحكامها الملزمة، حيال كافة الجوانب الإنسانية الناجمة عن ضراوة الصراع المركب في سوريا. تغدو الصورة أكثر قسوةً وبشاعةً بعد سقوط أكثر من نصف مليون ضحية، وقرابة المليون جريح ومعتقل ومعطوب، و أكثر من 12مليون مشرد ونازح ومهجر، عدا عن تدمير ممنهج  طال أغلب الديار السورية، وبناها التحتية ومواردها الطبيعية، رغم كل ذلك لم تغير أو تخفف كافة القرارات الخاصة بالحالة السورية، من الفظائع اليومية التي تزرر الوجود الوطني والإنساني للمجتمع السوري.

 يعلم رجال القانون والقضاء قبل سواهم، أن مجزرة الكيماوي التي ارتكبها النظام السوري في الغوطة الشرقية في " 12 آب / أغسطس 2013 " جريمة حرب وفق " الفقرتين 17 و18 من المادة 8 من نظام المحكمة الجنائية الدولية " لا يترتب عليها  فقط  كما جاء في القرار الدولي الصادر وقتذاك ( 2118 لعام 2013 )، إجبار النظام على تفكيك وتسليم السلاح الكيماوي بوصفه أداة الجريمة ، وإنما وهو الأهم ملاحقة ومعاقبة مسؤولي النظام ممن وجهوا الأوامر،  ومن قاموا بتنفيذ فصولها الدامية، لكن اتضح - لاحقاً- أن المواربة في تحديد هوية الطرف المسؤول عن تلك المجزرة ، سياسة متعمدة  تُخفي رخصة مفتوحة كي يواصل النظام حربه الشعواء ضد الشعب السوري، وهو ما يفسر بكل وضوح  تحرير النظام من الالتزام بتنفيذ  كافة القرارات الدولية اللاحقة، التي كانت تدعوه  لإيصال المساعدات الإنسانية، وفك الحصار عن المناطق المنكوبة، ووقف القصف الجوي، وإطلاق سراح المعتقلين، وحماية المدنيين، ومن أبرزها (2042 و2043 و 2118 و 2165 و2139 وآخرها 2254 ) والتي لم تتجاوز في الواقع مداد الحبر الذي كتبت به.   

 قبل التدخل الروسي، لم تكن تصريحات المسؤولين الأمريكان والغربيين،  وعطفاً  بيانات مسؤولي الأمم المتحدة، عن مخاطر التدخل الإيراني المباشر والميليشيات التابعة له، وعن أدوارهم في قتل المدنيين السوريين، ومضاعفة معاناتهم الإنسانية، ذات قيمة أو أثر في ردم الهوة، بين القوى التي تخرق ميثاق الأمم المتحدة على مرأى ومسمع العالم، وحق الشعب السوري في تقرير مصيره، وتوفير الحماية الدولية العاجلة له، فكيف بعد جرائم التدخل الروسي التي حرقت الأخضر واليابس تحت ذريعة محاربة ( الإرهاب ) المستثنى من أهدافها الحقيقية، ضاربةً عرض الحائط بما تبقى من أدنى درجات احترام  الشرعية الدولية. بالتوازي مع هذا السلوك العدواني الصارخ، غدا النظام  السوري المدعوم من روسيا وإيران أكثر تعنتاً في رفض تنفيذ الشق الإنساني من قرار مجلس الأمن الأخير ( 2254 لعام 2015 ) وتحديداً ما ورد في الفقرتين" 12 و13 منه". بدلاً من تحميل النظام  وحلفائه المسؤولية السياسية والقانونية عن إفشال مفاوضات جنيف3،  التي قامت على أساس القرار المذكور،  أظهرت الدول الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، أنها ترجح بكل صفاقة المصالح والاعتبارات السياسية على مبادئ الحق والعدل والقانون، ما يشكل تقويضاً دراماتيكياً لمسيرة طويلة من بناء منظومة قانونية قامت على احترام حقوق الإنسان، وحماية ضحايا الحروب والمنازعات، و وضع حد لسياسة الإفلات من العقاب.

اليوم على وقع المهلكة السورية، ثمة صدمة كبرى لم توقظ ارتداداتها وصرخاتها الضمير الإنساني الغافل ، ولم تدفع حتى المنظمات الحقوقية الدولية، إلى ما هو ابعد من توثيق وأرشفة الجرائم والانتهاكات الجسيمة، التي يتعرض لها الشعب السوري المنكوب، على يد قوى الطغيان الداخلي والخارجي. من المخجل  بل ومن العار بحق الإنسانية جمعاء، أن يُباد شعب بكامله ، ينام في العراء، ويموت من الجوع، ويختفي في المعتقلات، ويقضي في بطون البحار، ويُحرم من أبسط حقوقه الإنسانية ، فقط لأنه طالب بحقه في الحرية والكرامة، فيما أيادي أعدائه  طليقة في ممارسة أعتى أنواع القمع والتنكيل والإجرام. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات