جردة حساب مؤقتة مع اليأس

جردة حساب مؤقتة مع اليأس
طيلة خمس سنوات لم يخترع الشعب السوري أداةً لقياس شدة اليأس، إذ لم يكن هناك حاجة لإضاعة الوقت بالتفكير في التماعاته الفردية هنا وهناك، بل إن التركيز على التفاؤل العام بقرب الخلاص من النظام المستبد، ظل منذ أيام الثورة الأولى، مروراً بتحولاتها، هو العرف السائد، وهو النبض الذي يعلو في مناخاته، وفي يومياته دائماً.

كان السوريون مصلوبين على خريطة من دم الشهداء، لا يملكون دعماً لحراكهم المشروع من أي صديق فعلياً، وكانوا لا يختزنون طاقة لترقب الأمل، ولا يملكون أي زوادة تسندهم لتحمل مشقات النزوح واللجوء، ولا يحوزون ومضات من الاسترخاء، تكفي لأن يتحرروا من يومياتهم القاسية والصعبة، ليمضوا أكثر في تبيان المستقبل واحتمالاته، ولم يكونوا جاهزين أبداً للدخول في ألعاب السياسة وكواليسها ودهاليزها ومستنقعاتها..! لقد خسروا الكثير على كل الصعد، وأمست أيامهم كلها مذابح ودمار مستمرين على مرأى العالم كله، ولكنهم لم يصبحوا يائسين،  بل بقوا متمسكين بحلم التغيير.

ولأنهم كانوا هكذا، بدا للكثيرين ممن تابعوا التفاصيل الميدانية والسياسية طيلة الأسبوعين الماضيين أن ما يعتري السوريين حالياً من مشاعر، هو أقرب للهزيمة، فانبروا يتحدثون عن خسارة المعركة، وباتت مسارات كلامهم وتحليلاتهم تبث اليأس بين الناس، حتى كاد المرء يظن بأن السوريين باتوا قاب قوسين من العودة إلى العيش تحت حكم نظام الأسد!!

هنا، وبالتدقيق في التفاصيل، يتبين لنا بأن التفكير بهزيمة من نوع ما يتأتى بسبب الخسارات الميدانية التي أحاقت بفصائل المعارضة، إثر كثافة التدمير الذي تلحقه آلة الموت الروسية على الأرض، وهي تدعم جيش النظام والميليشيات الشيعية المتحالفة معه. كما أن توقف العملية السياسية العتيدة، والتي لم تبدأ فعلياً، ظهر للبعض على أنه جزء من مخطط دولي يهدف إلى دفع سوريا نحو مصير أسود ينتظرها على يد روسيا وإيران، اللتين ما برحتا تقدمان السند والعون للنظام منذ بداية الثورة. ولعل انكشاف الوجه الحقيقي للسياسة الأمريكية التي لم تدخر جهداً طيلة السنوات الماضية في اللعب على مصير السوريين، والتغرير بالمعارضة السورية، قد ساهم أكثر في خلق إرباك في الرؤية، حول دور (أصدقاء الشعب السوري) في تأمين البيئة المساعدة لاستمرار النظام في ما يرتبكه منذ خمس سنوات. 

الخسارات الميدانية في جبهة الساحل وفي الجبهة الجنوبية وفي جبهتي ريف حلب الجنوبية والشمالية، لم تكن مبهمة الأسباب يوماً، ولعل التفكير في واقعها طيلة الفترة السابقة يجعلنا نستبدل طريقة السؤال حولها، من: "كيف تمكن النظام من السيطرة عليها؟"، إلى: "كيف صمدت أمام النظام طيلة السنوات السابقة؟"

فوضع هذه الجبهات كلها، ومن قبل أن تصليها المقاتلات الروسية ناراً حرقت الأخضر واليابس، كان مهزوزاً وملتبساً، بسبب تشتت الفصائل في المنازعات الداخلية، وبسبب تعدد جبهاتها، إضافة إلى أنها ورغم مرور عدة سنوات على سيطرتها على الأرض، لم تخلق إدارة مدنية يُتفق على أهليتها، لتحكم حياة المدنيين الذي أصروا على البقاء في مناطقهم..! لا بل إن مسألة الإدارة كانت واحدة من أكبر القضايا التي استُتبعت بمعارك مناطقية كبيرة، خلفت صراعات دموية، كانت تساهم يوماً بعد يوم في إفراغ المناطق من سكانها، بالتوازي مع سياسة التدمير الشاملة التي اتبعها النظام منذ أن فقد السيطرة الميدانية عليها..!

رغم كل ما سبق، كان السوريون من سكان هذه المناطق وغيرها، يحرثون في يومياتهم الصعبة، ويزرعون إمكانيات الحياة، وبقوا مستمرين في تحديهم لكل الهزائم المحتملة. لقد واجهوا ألة الموت التي سلطها النظام ضدهم، وفعلوا كذلك مع سيطرة داعش ومن يشبهها على حياتهم، وطردوها من مناطق كثيرة، وتحملوا عسف الفصائل التي دمر شذوذ الكثير منها حياتهم المدنية، بعد أن حولت المناطق التي سيطرت عليها بحجة حماية سكانها، إلى "إمارات" معلنة وغير معلنة يحكمها أمراء حرب!

ولعل من يراقب حراك الثائرين الذين كانوا يستعيدون صورة ثورتهم السلمية المدنية الديموقراطية، كلما سنحت لهم الظروف بذلك، كان يدرك بأن ما يحدث على الأرض من تجاوزات، إنما هو مرحلة مؤقتة ترتبط بتفاصيلها بواقع الحرب التي يشنها النظام ضد المناطق المحررة، وأن كل الفصائل التي تغولت على حياة الناس، ستُهزم عاجلاً أم آجلاً، على يد إرادة السوريين الذين خرجوا في ثورتهم، لا ليستبدلوا طاغية بطغاة آخرين، بل ليقبروا جيفة الطغيان كلها في مقبرة قصية، على هامش تاريخٍ يصنعونه..!

في الأيام الماضية، كان السوريون على موعدٍ اعتيادي مع محاولة أخرى من محاولات النظام لإنجاز ما عجز عن فعله طيلة السنوات الماضية، وهم يدركون بأنه محاولته قد تنجح آنياً، ولكنها لن تنجح طيلة الوقت، فدون الميليشيات الشيعية، ودون الإسناد الناري الذي وفره  طيران الاحتلال الروسي، سيخسرُ النظام كل ما استطاع أن يحصل عليه مع هذا الدعم المفتوح..! 

وهم يعرفون بأن الحلول التي يقدمها المجتمع الدولي لهم حالياً ليست سوى هزائم مغلفةٍ بالسيلوفان، وبشرائط مزركشةٍ، لن يُخدعوا بمظهرها، ولهذا وقفوا مساندين لموقف الهيئة العاليا للمفاوضات، التي رفضت الاستمرار في مسار التفاوض دون تحقيق الحد الأدنى مما يقتضيه القرار الدولي 2245 ولاسيما الفقرتان 12و13 اللتان توفران الأوليات الأساسية للشعب السوري، قبل الشروع بالتفاوض على هيئة الحكم الإنتقالية وغيرها من التفاصيل.

فإذا كان السوريون يدركون كل هذا، ويعرفونه، ويقاومونه، فهل سيصدقُ أحدٌ بأنهم يائسون؟ 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات