وجهكم للثورة، ظهركم موارباً لجنيف..

وجهكم للثورة، ظهركم موارباً لجنيف..
ما الذي تملكه (الهيئة العليا للمفاوضات) من أوراق لتكون قوية أمام خصومها المتعددين؟ والذين كشفت سنوات الثورة أنهم ليسوا محددين بالنظام وحلفائه الروس والإيرانيين فحسب، بل إنهم أيضاً حلفاؤها ذاتهم، خاصة وأن مجريات الأيام السابقة كشفت تبديلهم مواقعهم بسرعة كبيرة، وفق إملاءات اللحظة السياسية في العلن، بينما يفصّلون توجهاتهم في السر بناءً على مصلحتهم بتوريط الروس أكثر فأكثر في المستنقع السوري، وبسفك دم السوريين.

قبل النظر في أوراق القوة، يجب التوقف عند نقاط الضعف التي يدركها ابن الشارع البسيط، بسبب من وضوحها، حتى وإن ادعى البعض بأن كواليس السياسة تُخفي أكثر مما تُظهر.

أولى هذه النقاط تقول بأن تشكيل الوفد التفاوضي للمعارضة السورية جاء بناء  على إملاءات سعودية تركية أمريكية، ولهذا فإن هذا الوفد تحول بالنسبة للكثيرين إلى ممثلٍ لمصالح هذه الدول الداعمة، بدلاً من أن يكون ممثلاً لمصالح عموم السوريين! هذه النقطة قابلة للنقاش من مسارين، يقول أولها بأن وجود القوى السياسية المنضوية تحت سقف الائتلاف، مع مؤسسات من خارجه كهيئة التنسيق الوطنية وغيرها، قد تكفل حل مشكلة توافق المعارضة، سوى بعض القوى التي تمت دعوتها إلى الرياض، ولكنها رفضت القدوم، وتوجهت إلى خيار خاص بها تمثل بـ(مجلس سوريا الديموقراطية)، الذي أفضى إلى جعل هيثم مناع رئيساً له.

أما المسار الثاني لنقاش هذه النقطة، فيأتي من حقيقة أن هذه المؤسسة السياسية ليست واجهة كرتونية، فهي قوى سياسية دفعت أثماناً تاريخياً في مواجهة النظام الديكتاتوري. وهذا قول لا يتناقض مع الواقع التاريخي السوري، إلا إذا كان أساس التقييم مبني على غياب المعيارية، وغياب النزاهة، وبما يشبه كلام النظام الذي ينكر وجودها، وهو الذي عمل دائماً على إفراغ البلاد من المعارضة لصالح إنشاء كيانات كرتونية مفصلة على مقاسه، يسميها معارضة وطنية، وهي أحزاب شكلتها المخابرات السورية ولا تمثل أحد سوى أصحابها من المرتزقة.

وبكل الأحوال يمكن النظر إلى نقطة الضعف هذه لدى الخصوم السياسيين أيضاً، بذات الطريقة في القراءة، إن اعتبر أحد بأنها طريقة صحيحة في تنميط القوى السياسية؛ فـ(مجلس سوريا الديموقراطية) الذي يصر الروس على دفعه إلى الوفد التفاوضي يمكن ببساطة اعتباره يمثل مصالح روسيا في جهة المعارضة، وطالما أن روسيا تعتدي على الأرض السورية فهو سيكون طابورها الخامس لدى أعداء النظام، كما أن العديد من الشخصيات التي يُراد لها أن تنضم إلى الوفد، لم تعلن موقفاً قطعياً من مصير النظام ورأسه، واكتفت بدلاً من دعمها لمطالب الشعب السوري بإعلان موقف مضاد للقوى المسلحة التي طرأت على حراك الثورة، دون أن تبحث في  الأسباب التي دفعت بالآلاف المؤلفة من الشباب السوريين لحمل السلاح ضد قوات النظام.

أما نقطة الضعف الثانية، فتأتي من أن هذا الوفد بُني على توافقات، أملتْ على القوى العسكرية (فصائل مسلحة متعددة الأهواء والداعمين) أن ترضخ لفكرة الحل السياسي المقترح، ولكن وجود هذه القوى على طاولة الحل السياسي تمت "خردقته" من جهة أخرى حينما تم تصنيف العديد من هذه القوى على أنها إرهابية من قبل الروس، دون أن يتدخل (أصدقاء الشعب السوري) لمنع ذلك، كي يجنبوا قاطرة الحل فخاخاً إضافية نصبتها لها الجهات الداعمة للنظام، وهنا سيلاحظ المتابعون لواقع الخريطة العسكرية على الأرض، أن غياب المعيارية في التصنيف سيؤدي حكماً إلى خلق مساواة بين الأطراف المسلحة بشكل كامل، فبينما صُنفت (داعش) و(جبهة النصرة) دولياً على أنها فصائل إرهابية، صنف الروس (جيش الإسلام) وكذلك (أحرار الشام) على أنهم كذلك، وفي المقابل تصنف تركيا (قوات حماية الشعب) التابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي ومن يدور في فلكها كمنظمات إرهابية أيضاً.

نقطة الضعف الثالثة في وفد المعارضة للمفاوضات تأتي من أن العالم كله لم يتوافق على أي إرادة فعلية لإزاحة النظام طيلة السنوات الخمس الماضية، لا بل إنه ترك له المجال لأن يتوسع في جرائمه، ومارس التغطية على هذه الجرائم، وتعاطى مع نتائج هذه الجرائم على أنها هي المشكلة!! بينما كانت إيران منذ البداية تزج بقواتها والميليشيات التي تدعمها في المعركة لصالح جيش النظام، وصولاً إلى التدخل الروسي العسكري المباشر على الأرض، في محاولة لخلق واقع جديد يعيد الحالة السورية إلى مربعها الأول؛ أي إلى لحظة إطباق النظام وجيشه وأجهزته الأمنية على الشعب السوري.

سنلاحظ ومن خلال ما سبق أن داعش التي وضعت سبباً لكل ما جرى من تبدلات في المواقف الدولية، هي خارج الحسابات، وأن تركيز الحرب المعلنة على داعش لم يفضِ إلى أي تأثير بفعاليات معاركها وحروبها، بل إنها مازالت تقاتل بقوة على جبهة الجيش الحر، كما أنها تحصل على السلاح من مخازن قوات النظام كما حدث قبل أيام في دير الزور، حيث أدى انسحاب هذه القوات من مواقعها إلى حصول داعش على كميات كبيرة من الأسلحة!

وبناء على هذا سنرى كيف أن نقطة الضعف الرابعة، التي تهدد الوفد التفاوضي لم تأت من خصيصة بنيوية فيه، بل جاءت من خلال تدمير القصف الجوي الروسي للقوى العسكرية المعتدلة على الأرض، وكذلك من خلال تدمير القصف ذاته لكل مقومات الحياة السورية، في المناطق التي خرجت من تحت سيطرة النظام، ما أدى إلى خلق حالة مشكلة إنسانية تدفع الناس للمطالبة بإنجاز أسرع الحلول، ومعالجة الوضع الإنساني المتردي في المناطق المحاصرة (مضايا- الزبداني- دير الزور- وغيرها) وكذلك معالجة حالة النزوج الكثيفة، التي سببتها هجمات قوات النظام على مناطق المعارضة تحت غطاء جوي روسي..!

وبالعودة إلى السؤال الأول حول نقاط القوة التي لا تبدو منظورة إزاء نقاط الضعف السابقة، يمكن لأي سوري عايش مسارات الثورة السورية إدراك بأن ما يجري حالياً في الواقع السوري إنما هو طور جديد من أطوار مواجهة طويلة الأمد بين خيارات الشعب السوري وقواه السياسية الحرة، وبين النظام الديكتاتوري وحلفائه في العقدة المافياوية العالمية التي شكلها طيلة سنوات وجوده، ومن يقف معه من داعمين علنيين ومستترين.

اعتقاد الجميع بأن سوريا قد تحولت إلى ساحة لصراع بين مصالح القوى الإقليمية والدولية، ينقضه إدراك السوريين بأن مطالب ثورتهم هي الأساس المتين لقوتهم، في مواجهة تغول الأعداء واستهانة الأصدقاء، وهي أولى نقاط القوة التي تشكل بذاتها دليلاً مرجعياً لأي وفد سيفاوض عن هذا الشعب، وبمقدار ما تكون أهداف الحراك الثوري ماثلة أمام المفاوضين، وبمقدار ما يتمترسون حولها، فإن قوتهم تزداد وتصلب.

هنا لا يمكن الإصغاء  إلى من يتحدثون عن العملية السياسية بوصفها لعبة، تتطلب نوعاً من التنازلات كي تمضي، إذ إن مجرد جلوس وفد المعارضة السورية أمام مفاوضي النظام، يعتبر من قبل شريحة كبيرة من السوريين تنازلاً يستخف بدمهم، وبالتالي فإن اللعبة السياسية المزعومة ستجري بالنسبة لهؤلاء على حساب السقف العالي للمطالب الشعبية المحقة، حيث لا يعقل وبعد مقتل مئات آلاف الشهداء على يد الآلة الحربية للنظام ومن معه، وبعد دمار البلاد أن تهمش الحلول المطروحة محاسبة المجرمين.

ومن الناحية العملية، تتوفر بين أيدي المفاوضين وسائل عديدة للحركة على الأرض، فالفصائل العسكرية التي وافقت على اتباع طريق الحل السياسي، أبقت خيارها مشروطاً بعدد من المطالب، ودون تحققها لن يكون أمام المفاوضين سوى البقاء على الطاولة لوقت طويل دون فائدة، إلا التسويق الإعلامي للمفاوضات بذاتها، وفي حال هزمت هذه القوى المسلحة وهو ما حاول النظام فعله طيلة السنوات السابقة، فإن أفق المواجهة التي  لن تنتهي إلا بهزيمة النظام، يقتضي من القوى السياسية وكافة فئات الشعب التوجه إلى خيار الثورة السلمية ووسائلها التي خبرها السوريون في السنة الأولى من الثورة، ولعل الإرهاصات التي ظهرت خلال الأيام السابقة من خلال عودة عدد لابأس به من التنسيقيات إلى ممارسة الفعالية السياسية بعد كمونها فترة طويلة، واكتفائها بالعمل اللوجستي في قطاعات الإغاثة والعمل الإعلامي، تُفصحُ عن إمكانية تلازم المسارين السلمي والمسلح صوب هدف واحد منذ الآن، وعدم تأجيل الأمر بانتظار جولات التفاوض العتيدة..

وبالتأكيد فإن الخيارات التي يمكن للوفد التفاوضي المضي بها، والتي تبدأ بمقاطعة جلسات جنيف القادمة بعد أيام، و لا تنتهي بتعطيلها عبر رفض التنازلات، يحتاج إلى دعم شعبي، لا يتكرس حول الشخوص الذين سيجلسون على الطاولة، بل يتحدد على أنه دعم لمطالب السوريين الأولى بالحرية والعدالة والكرامة.

التعليقات (1)

    سامي الصوفي - واشنطن

    ·منذ 8 سنوات 3 أشهر
    من أحلى ما كتبت أخي علي. سلمت يداك.
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات